شاكر لعيبيكتبَ قارئ من قرّاء جريدة (المدى) ان الكثير من الأعمدة التي يطالعها في الصفحات الثقافية العراقية، تنهمك في شأن ثقافيّ ومعرفيّ محض وتدير ظهرها للظواهر الثقافية المقلقة واليومية في البلد وفي العالم العربيّ.
قبل ذلك ذكر لي صديق، يكتب في لندن في صحيفة أخرى، بضرورة تبسيط القضايا وفرشها أمام غالبية القراء. بينما نشر سامي سهيل نادر ذات مرة في (المدى) نفسها ملاحظة قد تذهب بالاتجاه نفسه، وتتعلق بالعيار الثقيل لغالبية الكتابات في ثقافية الجريدة. ولاحظ متابعٌ رصين أن أعمدة أخرى إذا لم تفعل ذلك فإنها تنشغل باستجلاب أمثلة وأسماء وظواهر أوربية لا يُعرف في العراق عنها الكثير.وعلى الرغم من عدم دقة الملاحظة عموماً. خاصة فيما يتعلق، حسبما أعرف، بكاتب هذه السطور الذي حاول قضايا الشعر والثقافة العراقيين، وراهِن الترجمة والمترجمين في العالم العربيّ وكتب مقترحاتٍ من أجل المتحف العراقيّ, وألمح إلى الأيطيقيا والأخلاق الثقافية السائدة وساءل بعض إشكاليات الشعر الشعبيّ وتاريخ قصيدة النثر في البلاد وإرث بلاد الرافدين وسوى ذلك، فإن القبول بالملاحظة يصير واجباً لكي يُحسِّن الشاعر والكاتب من أدائه ويوطّن الثقة بقارئه وينير المساحة التي يشغلها بالمزيد من الأضواء.من الجليّ أن الملاحظة تنصبّ جوهرياً على دور الثقافة في لحظةٍ معينة والأشكال التي يمكن أن يتجلى فيها هذا الدور، ثم وظيفة المثقفين والكتاب والصحافة في بلدٍ ما زال يعاني الأمَرَّين. وهنا قد يختلف المرء مع الأصوات القديمة - الجديدة التي تطلب من الثقافة أن تكون في خدمةِ لحظةٍ سريعةٍ زائلة، أو أن تكون في خدمة منفعةٍ محدّدة. نقول هذا لكي لا نثير الالتباس العربي المزمن بين (الثقافة) و(السياسة).ترتبط المشكلة في الحقيقة بالمفهوم المغاير الذي لا يقبل أن ترتهن الثقافة (للآني) وحده وتفضّل القضايا الأكثر ديمومة أو الشاملة. الأخيرة من طبيعة الثقافة نفسها إذا لم تكن شغلها الشاغل. لا يعني الأمر تعالياً على الراهن الثقافيّ عربياً وعالمياً، إنما الوسيلة التي يمكن من خلالها استخراج العبر والدروس منه، أو التدليل عبره على فكرة جوهرية عريضة. لا ينقص اللحظة، كما نعلم، حماس المعلقين على الظواهر الثقافية الساخنة في العراق، وبعضهم يضع اليد على الجرح الثقافي والآخر قربه. ولا نظنّ أن البلد يحتاج المزيد من التعليقات على ما يحدث. يلزمه كما يبدو المزيد من الثقافة والحقيقة والترفّع والدقة، والخيال أيضاً.لعلّ الإيمان بقارئ الصفحة الثقافية مفتّقد في الملاحظة المذكورة، كأن هذا القارئ يمتاز بمحدودية الرقعة وضيق الأفق الذي لا يستطيع التوصُّل إلى مغزى الكلام. وكأنه ينتقل إلى صفحة مخصَّصة للثقافة ليجد فحسب ما يعرف وما يريد أن يعرف، أو أنه يفتش عن معلومةٍ مثيرة، فضائحية، مُستعادَة أو محض سجالية. وإذا كانت هناك، في يقيننا، أزمة ثقةٍ (بالمكتوب) عموماً بسبب ترِكةٍ ثقيلة من أكاذيب الساسة والقادة الذين استخدموا الكلام الجميل واستعادوه زوراً وبهتاناً منذ ثلاثين عاماً، فإن القارئ ما زال يفرّق بين الغث والسمين، بين الوجبة السريعة و"مأدبة أفلاطون". في المأدبة الإغريقية الشهيرة ثمة حوار يتمسك بمفردات جادة عن الحقيقة التي يمكن التوصل إليها ليس فقط عن طريق العقل إنما القلب أيضاً، بل الانتقال عبره من الجمال الحسِّي إلى مفهوم الجمال الكامل.هذه الثقة الضائعة بالكلام الرصين تصنع لها وزناً مضاداً، فهي موصولة الآن في الصفحات الثقافية العراقية بالعودة إلى "أدبٍ ساخرٍ" مشبع بالمرارة، يستمد نسغه من الراهن في المقام الأول مُعزِّزاً نصه بالحكاية الشعبية العراقية بل مستعيناً بالمفردات المحكية. ارتفع نجْمُ هذا الأدب بطريقةٍ صاروخيةٍ في السنوات الخمس الأخيرة، وفَسحتْ له كبريات الصحف أبوابها. يمكن تفسير السخرية في سياقها العراقي، وها نحن في موضوع ساخن، بأنها تعبير عن المرارة التي تكتظ بها غلاصمُ العراقيين بعد عقود طوال من الحروب والمآسي، وبأنها فعلُ مقاومةٍ ضد اليأس. إنها جوهرياً معادية "للأدب الرفيع" الزائف الذي يحسب البعض أننا أتُخمنا به. لكنها من جهة نوع من نصوصٍ مشحونةٍ ومشحوذةٍ بتجربة اليوميّ والتاريخيّ والحرقة التي قد لا يستطيع الجالسون على المأدبة الأفلاطونية مجاراتها. وهي تنطوي من جهة أخرى على قسوةٍ خفيةٍ، مراوغةٍ تتلبّس بلبوس الطرفة، وتنقد الوقائع قدر ما تستلهم من معايير الواقع التقليدية، الأخلاقية والثقافية واللغوية. وهي في جميع الأحوال وللسببين المذكورين قادرة على شد الانتباه وإيجاد رقعة واسعة من القراء. هؤلاء قد لا يفضّلون الوجبة السريعة ولا مأدبة أفلاطون كليهما ولكن يريدون أكلة شعبية مُعتادَاً عليها، لعلها ثقيلة الهضم أحياناً.وفي ظننا أن معالجة الظواهر الثقافية المستعصية، بما في ذلك الفساد الثقافيّ والروحيّ، والفقر المعرفيّ واستعادة المفاهيم دون تمحيصٍ وإطلاق الإحكام بعُجالة وتقسيمات الأجيال بالغة الخفة والاكتفاء بالمعرفة الذاتية المشكوك بها والسخرية حدّ العدميّة والكتابة المحتدِمَة على المواقع الإلكترونية التي تماثل اح
تلويحة المدى: مأدبة أفلاطون
نشر في: 4 يونيو, 2010: 04:40 م