احمد ثامر جهاد
يعتبر عدد من النقاد ان معالجة اعمال كافكا على الشاشة عصية، ان لم تكن منيعة. لكن ذلك لم يقف عارضا امام محاولات العديد من المخرجين في تكييف اعمال كافكا القصصية والروائية للسينما سواء في افلام قصيرة او روائية طويلة، ربما اكثرها شهرة فيلم «المحاكمة» لاورسون ويلز عام 1962 اداء انتوني بيركنز، الذي يعتبره المخرج اهم تجربة سينمائية خاضها على الاطلاق.
وقد توالت في سنوات لاحقة نسخ الافلام القصيرة التي عالجت على وجه التحديد رواية «المسخ» وقصة «طبيب الارياف «سينمائيا واغلبها افلام انيمشن كون الاخير يتيح على مستوى الاسلوب الفني مساحات اوسع للتعبير عن عوالم كافكا الكابوسية.
افلام عدة متفاوتة المستوى انتجت عن حياة كافكا وادبه، وحظيت «المحاكمة والقلعة والمسخ» باكثر فرص النقل الى الشاشة.( للاسف لم اشاهد نسخة المخرج النمساوي مايكل هانيكه عن رواية القلعة عام 1997) فيما قدم بعض المخرجين تصورهم الخاص عن اعمال كافكا من دون النقل الحرفي لها، ربما من افضلها الفيلم القصير « franz kafka» للمخرج البولندي»بوتر دوملا» عام 1992 حيث اختزل المخرج حياة كافكا وادبه في 16 دقيقة اعادت خلق المناخ الكافكوي بصورة مشفوعة بالتضمين الذكي لمصائر شخصياته الابرز في المحاكمة والقصر والمسخ ومرسومة باللونين الابيض والاسود تعبيرا عن عالم كافكا شديد العتمة. استثمرت تلك المحاولة الامكانيات التعبيرية والرمزية لافلام الانيميشن في تمثل المعنى الادبي في الصورة السينمائية والتي من دونها لن يكون ممكنا تخطي حدود الجنس الفني نحو فضاء تعبيري رحب ومفتوح على تأويلات عدة تنداح خلالها الحدود الفاصلة بين الادب والسينما في صورة حداثية تستجيب لكل ما هو ممكن خارج اطر النص الادبي.
شخصيا اعتبر فيلم «كافكا» انتاج 1991 للمخرج ستيفن سودربيرغ افضل المحاولات السينمائية التي تعاملت مع عوالم كافكا وادبه باسلوب مدهش ومثير يلخص سعي الكاتب للبحث عن الحقيقة في عالم منذور للخطيئة والتآمر والارتياب. بعيدا عن شهية المطابقة مع الاصل عمد المخرج الى التعامل مع نص الكاتب البريطاني «ليم دوبز» بذكاء شديد قدم من خلاله ما يشبه السيرة الذاتية لكافكا التي مزجت بين مظاهر الواقع والخيال. فيلم مستقل خارج الانماط التقليدية مبني على تعابير الظلال القاتمة للشخصيات وجمالياتها الآسرة في براغ العشرينيات حيث الازقة الموحشة والاستدارات المخيفة والابنية المهيبة الملغزة.
بشكل صُمم كاحجية يتم التحقيق مع «كافكا» يؤدي الدور ببراعة الممثل جيريمي ايرونز» وليس ثمة افضل منه لهذا الدور-جراء اختفاء احد زملائه في العمل المصرفي. من الناحية الدرامية سيكون كافكا شاهدا على قتل الكثيرين، فيما ينزلق تدريجيا الى متاهة القلعة واسرارها المحيرة. يقول كافكا للدكتور مونرو: انا اكتب عن الكوابيس وانتم تصنعونها. يمزج المخرج سودربيرغ بتوليفة عجيبة بين ابرز ابطال روايات كافكا كالقاضي وغبرييلا واورباخ ودكتور مورنو واخرين ليكونوا جزءا من حياة كافكا ومصيره المأساوي. ثمة لحظة فاصلة في الربع الاخير من الفيلم يتحول فيها الشكل الصوري من الاسود والابيض الى الالوان ايذانا بدخولنا الى الكابوس الاخير الذي تتلاشى فيه المظاهر الزائفة للواقع والحلم في آن، فكل ما نراه على الشاشة هو اللامعقول عينه، وما الاخير الا سطر فريد من حياة كافكا الفاجعة التي خطفت جلّ احلامه في سن مبكرة.