طالب عبد العزيز
ليس الوحشة أن لا تكون لك حبيبةٌ، وقد انقضت السنوات، إنما الوحشةُ أن تنبثق لك من بين جليد السنوات امرأةٌ، تنتصب، لتحدثك عن الحب والغربة فيه، عن تراشق العطر في قوارير الكلام، وعن الطمانينة الكامنة في قلب السلام، وتمرُّ بكفها الرطبة الصغيرة على الكدمات والقروح، التي لم تبرأ منها بعد. امرأة تعتنق عنك آثام العمرمذهباً وطريقة في العشق، ومطمئنةً،
تدخل معك خرائب روحك، ونهايات الطرق المظلمة، تأخذ عنك ذلك كله، ثم تخرجه في الصباحات الى السهول، والمفازات البعيدة، تغسله من عفن الدهور، وتهذّبه من المواعيد الكاذبة والخيبات، ثم، وفي غفلة منك، أو بدونها، تستبدلُ أديمَ روحك المتغضن بما اتسق في قميصها من الطفولة والندى والكركرات.
في السهول التي لم تكُ سهولاً من قبل، وعلى قمم الجبال التي لم تطأها النسائمُ بعد، وفي الأودية حيث ينمو الصمت، غريباً، خلف أجماتها،هناك، حيث لم تسمَّ الاشجارُ بعد، ولم تنحت حوافرُ الماعزِ الرمل والحجرَ، ولمّا تستدلُّ الصقورُ على أقرانها، في المارثون الاول للريح، قبل النار والآلهة السارقين، يوم كانت الشمسُ تشرق بدفقٍ واحد، وكانت النجوم كتلة ضوء واحدة، ولم يهتد احدٌ لنهر، ولم تنبجس من الصخور قطرةُ ماء بعد، وحيث كل ما في جوف الطبيعة خرسٌ وعماءٌ، من هناك، ومن غيمة عابرة وحيدة تتنزلُ امرأة، بعمر دراجة طفل تقرأُ الشعر بلغات العالم كلها، وتأتي بطفولتها على الحروف التي فيك، وعلى سلالم الانغام الى تؤويك، وعلى الازاميل التي ما انفكت تقشط لبَّ روحك، ترى، الى اين ستمضي بقلبك قوافلُ التيه هذه، وحتام تتأمل كمانَ الجسد فلا يُصدرُ نغماً، وقد اصطفت السنونوات على سلك صبرك الرخو؟ أترى، ثمة من كان يصغي وينتظر، أومن سيخطّ لك طريقاً الى العشب، ويدلك على الينابيع، في تقاطع المصائر والمسافات هذه؟
نحن لا نتذكرُ اللحظةَ التي هياتها الاقدارُ لتكون فاصلة بين الحب وسواه، فلحظات مثل هذه لا تدخل الزمن، ولا تنتظم في قوانينه، هي خارجة منه حسب، فقد تلجُ المرأةُ قلب أحدنا من بيت في قصيدة يائسة، قالها شاعرما، أومن أغنية منسية، في فيلم طويل، أو من لحظة خذلان على مصطبة، في حديقة عامة، لكنها ستجئ لا محالة، بعطرها وعواصفها، برعدتها الاولى أوبخمودها الاخير.. تصفّرُ الزمنَ، ليبدأ منها، ولتنطلق سهام الاقدار الى كل الجهات، تعبث بخوارزمية الروح، وتتطفل على قوانين الفيزياء، تربك معاجم اللغة، وقواعد النهايات .. لكننا، ومن كوّةٍ مهجورة في سور المدائح، سنجد انفسنا فجأة، وقد اطمأننا الى قميص الحبيبة، الذي تهالكَ، مثل قطةٍ على حافة السرير.. فلا يُربكنا مشهدُه هامداً، ولا يسوؤنا تزاحمُ السراويل على مشجب الثياب، أو عدم انتظام الاحذية في مخزنها عند العتبة .. لاننا، بالكاد، وجدنا الطريق سالكةً، الى هناك، الى حيثُ الحَلَمَةُ فستقةً ستنفجرُ، وما يضوع بينها وشقيقتها غابةُ عطر لا أكثر، وأنَّ المطر في الحديقة سيحفر طريقاً لا محالة الى السوسن.. ترى، أيكون لزاماً علينا التوقفُ طويلاً، وإنعام النظر بألواح الميزوبوتيميا العظيمة، بعطايا الآلهة عشتار، بالجسد الدمّوزي الاخلد، الذي سقّاه الرافدان ماءَ الحياة الاولى، بالمسافة المضيئة التي تفصله عن اليقين وما يليه، وقد أضعنا كل شيء.. الكلماتِ، والعناقَ، والقبلَ، وطعمَ النبيذ.. ذلك لأننا، لم نصغ طويلاً الى الاغنية التي تسوسنها الريحُ هناك.