ثائر صالح
مرت الذكرى المئوية الخامسة لوفاة واحد من أعظم مؤلفي عصر النهضة، إن لم يكن أعظمهم، وهو الفرنسي الفلمندي جوسكان دي بريه (حوالي 1450 – 1521) يوم الجمعة أول من أمس.
وليس من غير دلالة أن يُعرف هذا العبقري باسمه الشخصي لوحده، جوسكان.
يعرّفه بيتر فيليبس مؤسس وقائد (Tallis Scholars) أحد أهم قادة الفرق الغنائية المعاصرة المتخصصة بموسيقى عصر النهضة بأنه ساحر ورياضي، فقد زاوج حساب سير اللحن وتداخله بطريقة تكاد تكون رياضية مع روعة وجمال الألحان الساحرة. وكما حصل مع الاحتفالية بالذكرى 250 لولادة بيتهوفن، ألغيت أو أُجلت الكثير من الاحتفالات بمناسبة الذكرى المئوية الخامسة لجوسكان لنفس السبب: جائحة الكورونا. أُجلت على سبيل المثال ثمان حفلات لفرقة تاليس المذكورة على قاعة بيير بوليز في برلين (أكاديمية بارنبويم - سعيد) التي كان من المقرر تقديمها في الأيام الماضية على أمل تقديمها الصيف القادم. ألا أن الاحتفال بهذه المناسبة أخذ أشكالاً متعددة، منها تقديم أعماله في الحفلات، بينها مهرجان البرومز اللندني الشهير على قاعة ألبرت الملكية (بدأ المهرجان في 30 تموز وسينتهي بعد حوالي أسبوعين في 11 أيلول). الشكل الآخر هو تقديم تسجيلات جديدة، طرحت فرقة تاليس مؤخراً آخر البوم من سلسلتها هو التاسع لتسجيلات كل قداديس جوسكان الموثقة وعددها 18 قداس. وطرحت فرقة أخرى لا تقل شهرة هي (Stile Antico) تسجيلاً عالي الجودة لأعمال جوسكان في بداية هذا العام بمناسبة اليوبيلية، يتضمن احدى الشانسونات (أغاني) التي تسمع لأول مرة، وستصدر الفرقة تسجيلين آخرين لاحقاً.
كان جوسكان من أوائل المؤلفين الموسيقيين الذين انتشرت أعمالهم المطبوعة. إذ ظهرت أولى الكتب المطبوعة في ألمانيا ثم إيطاليا بدءاً من القرن الخامس عشر حتى انتشرت الطباعة بعد صدور طبعة الكتاب المقدس الشهيرة (طبعه غوتنبرغ سنة 1855). فقد طبعت أقدم مدونة موسيقية مطبوعة معروفة هي مجموعة قداديس جوسكان في فينيسيا سنة 1502. وكان جوسكان قد عمل في إيطاليا قرابة عقدين من السنين وطور أسلوبه الخاص هناك، وأمضى حوالي ست سنوات في روما عضوا في الكورس البابوي وتحمل أخشاب مقاعد الكورس في الكنيسة السستينية توقيعه المحفور عليها. البابا الذي خدم عنده جوسكان هو إنوسنت الثامن الذي كان يحتجز أخ السلطان العثماني بايزيد أسيراً لديه، بعدما دفع بايزيد مبلغ 120 ألف قطعة ذهبية الى البابا لقاء عدم إطلاق سراح أخية خشية منافسته له على "الخلافة".
ماذا عن موسيقى جوسكان؟ يمكن اعتباره أحد أهم الموسيقيين الذين أسهموا في نقل موسيقى العصور الوسطى الى عصر النهضة الباهر والمشع. النقلة الأساسية هي التحول من الموسيقى المونوفونية (أحادية اللحن، مثل الموسيقى العربية) ومحاولات التعددية الصوتية (البوليفونية) البدائية إلى التعددية الصوتية المعقدة التي بلغت قمتها عند الإيطالي جوفاني بيرلويجي بالسترينا (1525 – 1594). كان تأثيره كبيراً حتى على تطور الموسيقى الإيطالية، واستمر تقديم أعماله طوال القرن السادس عشر حتى بدأت موسيقاه وموسيقى عصر النهضة برمتها تفقد بريقها أمام إشراق موسيقى عصر الباروك منذ بداية القرن السابع عشر.