لطفية الدليمي
تصوروا أننا نقرأ كتباً ورقية ورقها مصنوع من أنواع البكتريا الزرقاء ، تصوروا أيضاً أننا نرتدي أقمشة مصنعة من البكتريا الزرقاء الداكنة التي تعيش في قيعان الأنهار العذبة أو تعيش مع الطحالب الخضراء ، وتصوروا أيضاً أنّ بطاقة الطائرة وجواز السفر والمناديل وطبق الكارتون الذي نتناول فيه وجبة سريعة وكوب الشاي الورقي مصنوعة كلها من البكتريا الزرقاء اللزجة !
نعلم جميعاً أنّ الغابات والمناطق الحرجية سواء في حوض الأمازون حيث الغابات المطيرة أو غابات الأشجار الصنوبرية في الشمال الأوروبي والآسيوي والأمريكي تمثل رئة كوكبنا التي تمدُّنا بأسباب البقاء ، تهبنا الاوكسجين ونحو 28000 ألف نوع من المواد الطبية فضلاً عن غذاء الانسان والكائنات الحية ؛ غير أنّ القطع التجاري الجائر للأشجار من أجل صناعة الورق والأثاث في كلّ مناطق الارض أسهم بشكل كارثي في مشكلة التغير المناخي ، وتسبّب الاحترار العالي والغازات المتصاعدة من المصانع في حدوث موجات الحرائق التي التهمت ملايين الأشجار المعمرة في السنوات الأخيرة .
أفادت دراسات حديثة أنّ نوعاً من البكتريا ، يتميز باللون الأزرق المائل الى الاخضرار ، يمكنه المساعدة في انقاذ الغابات ليحل محل الخشب في صناعة الورق ؛ فقد أثبت العلماء لأول مرة أن البكتيريا الزرقاء الداكنة القادرة على التخليق الضوئي يمكنها أن تصنع السيلليوز ، وهو المادة التي تشكل الجزء الاساسي من جدران خلايا النباتات ، ويتكون الورق بكل أصنافه من تصنيع هذه المادة .
استمرّت محاولات ( مالكولم براون ) وفريقه في جامعة تكساس طوال سنوات لانتاج سلليلوز الورق والأقمشة من البكتريا الزرقاء ونجحوا في مسعاهم ؛ لكن الشركة الممولة لبحوثهم توقفت عن المساعدة لاعتقادها بأن العملية غير مجدية تجارياً .
لم يتوقف العلماء عن البحث واعادة المحاولة ؛ فصنعوا الورق من من تسعة أنواع من البكتريا التي ستنقذ ملايين الاشجار من حد المقصلة ، علماً أن تكثير هذه البكتريا الثمينة لايحتاج إلا للضوء والماء .
إحدى فضائل العلم المنتجة هي أن يعمل علماء من جنسيات مختلفة على إعادة التوازن البيئي في كوكبنا ببحوثهم المتواصلة بلا كلل ؛ فقد حلّت كشوفاتهم جانباً كبيراً من معضلة صنع الورق ، وتجري اليوم في أمريكا وكندا عمليات تصنيع واسعة للورق من أنواع البكتريا التي تعيش وتتكاثر تلقائياً في الأنهار والبرك ، إضافة إلى البكتريا الزرقاء المهجنة التي يكاثرها العلماء في برك صناعية واسعة لتقوم بانتاج السيلليلوز .
من فضائل البكتريا الزرقاء على صناعة الورق أنّ السليلوز الذي تنتجه يكون بالغ النقاء ولايحتاج إلى عمليات كيميائية متعددة لتبييضه كما يحصل مع سلليلوز الاشجار ونبات القطن ، ممّا يحول دون زيادة تلوث البيئة والانهار بالمواد المبيضة والسموم التي كانت تنتجها صناعة الورق التقليدية من خشب الغابات .
لنا أن نتخيل في هذا الأمر كرم الطبيعة وعظمة العلم ؛ فللطبيعة قدرتها الخلاقة على إعادة تحقيق التوازن البيئي الذي دمره البشر بالتصنيع واستنفاد الموارد الطبيعية طوال مئات السنين ، وللعلم والعلماء أن يبحثوا عن مصادر غير مألوفة للحفاظ على الغابات من جانب بتصنيع الورق من بكتريا المياه وإبقاء الكتاب الورقي حياً على مدى عقود قادمة من جانب آخر .
بوسعنا جميعاً الإسهام ولو بجزء بسيط ويسير في مواجهة معضلة المناخ والتفاقم الحراري كلٌّ من جهة وعيه وعاداته وإيثاره لاستعادة الحياة الطيبة على كوكبنا المدمر الذي يستغيث بعقول العلماء من فرط التلوث والاحترار المناخي الذي تسبّب به جشع البشر ولامبالاتهم بمستقبل الأجيال القادمة ، ونؤمن بأن العلم وحده وليس الجشع التجاري ولا سياسات المناخ المترددة ماسينقذ الغابات العظيمة من الزوال .