د. نادية هناوي
إذا كانت الحركة الشعرية المعاصرة قد صبَّت جام تمردها على النظام العمودي للقصيدة التقليدية، متخذة من الموسيقى الداخلية هدفاً يتحقق بالتفعيلات وحدها،
فإن القصيدة كموضوعات لم تكن مستهدفة استهدافاً مباشراً بقصد التمرد على ثيماتها وابتكار ما هو جديد فيها، بل ظل الموضوع الشعري يُجرب فيه تجريباً، ليس فيه من المغامرة سوى ما يتعلق بجلب رؤى وتصورات وظفها الشعراء الغربيون وأجادوا فيها كالاسطرة والقناع والتناص مع الموروثات الأسطورية والفلكلورية والخرافات الشعبية والملاحم والشخصيات التاريخية والإفادة منها في التعبير ترميزا وتغريبا وفنتزة.
وإذا كان رواد قصيدة التفعيلة قد مثّلوا جزءاً من التحديث في الحركة الشعرية المعاصرة، فإن الشعراء الذين أتوا من بعدهم ساهموا في حركة التحديث أيضا، متمردين على ما لم يتمرد عليه الرواد، وباتجاهين الأول: هو الشكل الفني والمتمثل في التمرد على نظام التفعيلة، والثاني دلالي يتمثل في التمرد على محتوى الشعر ومضامينه الفكرية. وبهذا يكون التمرد على الصيغ المعتادة ذا دوامية لا تعرف الخمود.
ولا خلاف على أن نسبة الاتجاه نحو الشكل الفني إلى نسبة الاتجاه الثاني الدلالي هي الأكثر كماً والأقوى تأثيراً في ما تركته على مسيرة الحركة الشعرية المتصاعدة والتي بلغت ذروتها أواخر القرن العشرين ومطلع هذا القرن الحادي والعشرين في عقديه الأوليين وباسهام شعراء من كل الأجيال، وفيهما ترسخ قالب قصيدة النثر لا كجنس شعري قائم بذاته حسب، بل عابر على أجناس الشعر الأخرى نظرا لما يتملكه قالبه من إمكانيات فنية واجناسية تسمح له بالعبور على مختلف أنواع الشعر وأشكاله.
وعلى الرغم من هذا الصعود الكمي والتأثير النوعي الذي حققته قصيدة النثر وهو بمثابة انتصار لاتجاه الشكل الفني في ما يتعلق بالصوت نبراً وإيقاعاً، فإن التأثير الموضوعي في التمرد على الدلالة وتجريب مناحيها ظل محصوراً في شعراء تمرسوا في المراهنة على الموضوع الشعري، ولم يتوانوا عن الاستمرار فيه والمداومة عليه. فمن هم هؤلاء الشعراء ؟ وما الذي راهنوا في التجريب عليه دلالياً ؟ وبماذا خالفوا شعراء قصيدة النثر في سعيهم نحو التمرد على قصيدة التفعيلة ؟ وهل حققوا مرادهم في كتابة قصيدة هي ليست نثرية ولا تفعيلية أم استمروا ما بين بين فلا هم متمسكون بالتفعيلة ولا متحررون بالنثر؟
ليس يسيراً تحديد التجريب الشعري لدى الشعراء الذين عاصروا الحركة الشعرية في مرحلتها الريادية، وبعض منهم تعلم من شعر الرواد( السياب والبياتي ونازك) وكذلك الشعراء الذين جاءوا من بعد هؤلاء، ولكن لم يمنعهم تأثرهم بمن سبقهم من إعلان الثورة عليهم؛ فكما أن الرواد رفضوا الرضوخ للقالب الكلاسيكي للقصيدة العمودية كذلك سعى هؤلاء الشعراء التجريبيون إلى الثورة على الموضوع الشعري، لا بقصد ابتكار جديد فيه حسب، بل أيضا بقصد استعادة ما كانت القصيدة العمودية تهتم به على صعيد الموضوع، مما كان اهتمام الرواد به قليلاً بالقياس إلى اهتمامهم بالشكل الفني.
وفي حركة التجديد ثمة مجدد يأتي بموضوعات مستحدثة وغريبة يطوعها لقالبه التفعيلي في شكل أسطوري أو في شكل قناع، وثمة مجدد يأتي بموضوعات مستعادة، طرحها الشعراء على مرّ عصورهم أو تناولتها كتابات المفكرين والفلاسفة ليطورها هو، ويطوعها للشكل الفني في قصيدتي التفعيلة والنثر، مضفياً عليها حلة جديدة ومستحدثة مبنى ومحتوى.
وما نعنيه بالموضوعات المستعادة هو وجدانية القصيدة وغنائيتها التي فيها لأنا الشاعر مكانة لا يتنازل عنها وللمرأة عنده موضع مركزي، تضفي عليها الطبيعة رومانسية وبأجواء حميمة فيها كثير من الوجد والهيام. ويساعد توظيف السرد بممكناته الأسلوبية على منح الشعر مجالات جديدة من البوح بشفافية التأسي الملتاع والتظلم الملذ والتشهي المتسامي، مما عرفته القصيدة العربية على طول تاريخها وبنظام الشطرين وموتيفاتها الموزونة والمقفاة وأغراضها المتناولة مدحاً ورثاءً وغزلاً وفخراً وحماسةً وزهداً.
وصحيح أنّ شعراء التفعيلة استطاعوا التمرد على القافية الموحدة للقصيدة العمودية، بيد أنهم أيضا جربوا استحداث موضوعات جديدة تخالف ما اعتادت القصيدة العمودية توظيفه.. فما بالنا إذن من شعراء جربوا في المعتاد الشعري الدلالي مثلما جربوا في الشكل الفني المعتاد ؟!!.
بناءً على ما تقدم، صار هناك شعراء لهم منجز شعري هو بمجموعه أقرب إلى اتجاه الشكل الفني منه إلى الاتجاه الدلالي كما أنّ هناك شعراء كانوا في مرحلة من منجزهم مجربين باتجاه دلالي، وفي مرحلة أخرى كانت نسبة ما أنجزوه من قصائد تسحبهم إلى اتجاه الشكل الفني... وقليل من الشعراء التجريبيين تمكنوا من التوفيق بين تمردهم على دلالية قصيدة التفعيلة من جانب، وبين تطويع قصيدة النثر دلاليا من جانب آخر.
ومن هؤلاء الشاعر حسب الشيخ جعفر الذي تعدُّ قصيدته أنموذجاً للتجريب الشعري الذي فيه تحتل الدلالة المركز في المراهنة على الشكل الفني حيناً وعلى المألوف الشعري حينا آخر، كنوع من التمرد على ما كان الرواد قد تمردوا عليه حين استحدثوا موضوعات أفادوا فيها من الشعر العالمي.
ومن يعد إلى دواوينه في مرحلته الأولى المتمثلة بنخلة الله والطائر الخشبي وزيارة السيدة السومرية وعبر الحائط في المرآة وكذلك كتاباته في المرحلة الثانية المتمثلة بديواني (كران البور) و(الفراشة والعكاز)، فسيجد أن التجريب ظل مسارا يرافق الشاعر مراهنا عليه طوال عقود، ولم يتنازل عن هذا الرهان حتى أنجز ما كان يتطلع إلى انجازه وهو كتابة قصيدة تفعيلة على نمط السونيت.
وإذا كان لكل مجرب أن يمهد لما يريد التجريب فيه، فان قصيدة( المرفأ المقفر) هي التمهيد الذي به اختط حسب الشيخ جعفر طريقه في كتابة هذا النمط الشعري. وقد أعانته جملة عوامل على تدشين هذا النمط، ومنها ما يأتي:
ـ موهبته وفطنته وسمو ذائقته، وهي خصائص ما أن تتوفر في الشاعر حتى يصبح متفردا ومميزا في عالم الشعر.
ـ اتقانه اللغة الروسية مكنّه من الاطلاع على الأرث الشعري الروسي لبوشيكن وليرمنتوف ومايكوفسكي ويسينين وتوتجف واخماتوفا والكساندر بلوك وآخرين، وكذلك اطلع على ما ترجم إلى الروسية من أمهات القصائد الانجليزية الخالدة وفي مقدمتها سونتات شكسبير وروائع بليك وكولدرج وورزدوروث، وكان من نتائج التأثر بهؤلاء الشعراء جميعا أن غدت الروح الرومانسية غالبة على قصائده.
ويخيل إليَّ أن قصيدة( المرفأ المقفر) هي التدشين الأول لتجريب حسب الشيخ جعفر نمط السونيت في كتابة قصيدة التفعيلة. وقد نُشرت هذه القصيدة في مجلة الآداب بعددها الأول الصادر مطلع عام 1962 ولعل ميزتها ليست في تنوع أوزانها وقوافيها وقصر أسطرها حسب ــــ وهي سمات صوتية وأسلوبية سيواصل الشاعر توظيفها في قصائده اللاحقة ــــ وإنما أيضا ما فيها من تكرار أسلوبي منح بعض الأسطر إيقاعاً، وساهم في إضفاء وحدة عضوية على القصيدة برمتها.
والمعروف أن المناداة صيغة إنشائية ترد في مختلف أجناس الشعر لكن ورودها في قصيدة التفعيلة له سمة إيقاعية خاصة ناجمة من تكرارية النداء وتنوع المنادى عليه. وفي قصيدة المرفأ المقفر تتكرر المناداة (يا مرفأ في المطر) كما يتغير المنادى عليه (وأنت يا قلبي ما زرت يوما كوكبا مهجور/ يا سفنا مثقلة بالعاج / يا سفنا ترحل)
ولقد استمر الشاعر في استعمال هذه الصيغة في قصائده اللاحقة، ومنها قصيدة( الكوز ) من ديوان نخلة الله وفيها يكرر الشاعر مناداة الطبيعة ممثلة بعناصرها( يا مطر/ يا ملح/ يا غفوة/ يا قطرة/ يا كوز/ يا خبز)
ومثل ذلك نجده في قصيدة( الصخر والندى) ويكون المنادى أما اسما مفردا أو جمعا أو مضافا ( يا حسرة في الريح/ يا عصفورة من نار/ يا راكبا عنق الرياح/ يا طائر النهار/ يا صيحة البحر ويا عواصف الرمال/ يا أخت / يا أيها النهر) وكذلك قصائد( الغيمة العاشقة) و( يا وردة البستان) و( وقت للحب ووقت للتسول) التي افتتحها على طريقة الهايكو بمفردة( شتاء) ويأتي بعدها تكرار المناداة بـ( يا دثارا كان من برد يغطيني)
ومن ميزات قصيدة( المرفأ المقفر) اعتناؤها بالطبيعة بوصفها هي الزمن والمرفأ هو المحطة التي عندها يقف الشاعر مخاطباً الزمن وقد وضع أوزار رحلته مستعطفا إياه أن يفتح له أبوابه بالحياة والنماء تطلعاً إلى مستقبل لا حدود له :
يا مرفأ في المطر
افتح لنا، أبوابك المغلقة
افتح لنا في المطر
دربا إلى جزر بلا عنوان
أسوارها نسيان
جزر لها أشجان
يرسو لديها القمر
ما مر فيها البشر
وفي المقطع الثاني يأتي السنونو وقد اقترنت صورته بالطبيعة الغناء ذات الأجواء المعطرة بالشذا والمنداة بالمطر لكن الطائر متعب من رحلة طويلة وبعيدة دار فيها حول الأرض :
عاد السنونو متعبا ..متعبا
طوف في ارض بلا حدود
الناس فيها يأكلون الورود
ويشربون المطر
ويرتدون الشجر
وإذا كانت قصيدة( المرفأ المقفر) قد اتسمت بكثرة الاحتفاء بالطبيعة ومركزتها شعريا بالتشخيص والمساءلة، فإن سونيات شكسبير كذلك اتسمت بحضور الطبيعة حضورا واضحا، متخذة صيغة شكلية موحدة من ناحية عدد المقاطع والقوافي المنتظمة لكن تأثير السونيت يبدو واضحا على قصيدة( المرفأ المقفر) وإن لم تُراع تلك الصيغة الشكلية لكنها متأثرة بها، والدليل على ذلك أمران:
1 ) قصر سطورها التي حاول الشاعر تكرار تفعيلة واحدة أو اثنتين وفي الأكثر ثلاث تفعيلات.
2) تدوير الأسطر، الذي يتكرر في مقاطع القصيدة فمثلا يدور السطر الثالث إلى ما بعده في المقطع الرابع من قصيدة( المرفأ المقفر) مع أن كل سطر منها مكتمل وزنيا ولكنه ناقص دلاليا ويستمر التدوير إلى نهاية المقطع:
يا سفنا مثقلة بالعاج
يا سفنا ترحل
مري على مرفأ
قنديله مطفأ
هناك قلبي مهمل.. مهمل
ملقىً على الرمال، وريش النسور
وذابلات الزهور
يحلم في ارض بلا حدود
ويتألف كل سطر من أسطر المقطع الخامس من جمل تضعف معها درامية القصيدة ثم يأتي المقطع السادس وعلى شاكلة الختام الشكسبيري قصيرا صغيرا، يختزل لفظيا ما هو متسع دلالياً، منهياً الحبك السردي بخاتمة غير متوقعة ومفتوحة.. غير أن توحيد القافية احتاج إلى إضافة سطر ثالث لإتمام الدلالة التي لم تستطع القافية إتمامها:
يا سفنا ترحل
هناك قلبي مهمل.. مهمل
ينتظر المد الذي لا يعود
وسيظل هذا الاحتدام الشعري ما بين موسيقية الشكل والتمام الدلالي بمثابة التحدي الذي لن يتمكن الشاعر من التغلب عليه سوى بتجريب التوظيف السردي الذي عرفت به سونيتات شكسبير.
وإذا كانت قصيدة( المرفأ المقفر) هي الخطوة الأولى التي بها وضع حسب الشيخ جعفر قدمه على أول الطريق باتجاه الافادة من السونيت نمطاً شعرياً، فإن القصائد التي كُتبت بعدها كانت هي الأخرى خطوات على الطريق نفسه، بها استطاع الشاعر بلوغ محطته الأخيرة وهي ديوان ( كران البور) وفيه اتخذ من السونيت نوعاً شعرياً ينضوي في جنس قصيدة التفعيلة، ضابطاً النظام الصوتي وقانونية قالبه الشعري وسائراً على وفق تفاصيله متمكناً من مجاراته شكلياً ومتحرراً موضوعياً في التعبير والتصوير والابتكار.
فكانت لكل قصيدة سونيتية موضوعها المستل من صميم الذات وعلاقاتها بواقعها مما أعطى للقصائد طابعها التجديدي ومنح الشاعر خصوصية النظم لا بطرا أو رغبة في المضاهاة والتباري وإنما شعوراً بأن في أغراض القصيدة الكلاسيكية ما يستحق البناء عليه وتطويره وليس التمرد عليه ورفضه.