TOP

جريدة المدى > ملحق اوراق > آفاق: عن "أمكنة تدعى نحن"

آفاق: عن "أمكنة تدعى نحن"

نشر في: 5 يونيو, 2010: 04:16 م

سعد محمد رحيمتؤشر حمى الكتابة عن المكان العراقي بعد أحداث 2003 نوعاً من محاولة تأصيل، أو تعزيز، هوية شخصية وأخرى جماعية.. محاولة لها من المحمول الرمزي بقدر ما لها من المحمول الواقعي. فالمكان، ها هنا، تاريخ، وتضاريس طبيعة حولتها الثقافة، وأسطرتها المخيلة. والمكان، ها هنا، كذلك، شرط كينونة، ومعطى مشاعر وانفعالات، وأفق ذهني يمتد بين ماضٍ ضاع بعضٌ من حواشيه وهوامشه،
 وأجزاء من متنه أيضاً، ومستقبل ليس من السهل التكهن باتجاهه وصورته. وهي محاولة لتسكين قلق الوجود ومناورة في خضم صراع البقاء، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخزونات الذاكرة ومقتنياتها بعد أن راحت تتعرض للتهالك، ومن ثم للنسيان.   يخوض خضير الزيدي مغامرة مثل هذه الكتابة في كتابه ( أمكنة تدعى نحن: دار الينابيع/ دمشق ـ 2010 ) مستلهماً أماكن طفولته وشبابه بعدِّها حواضن نشوء وتكوين، ومسارح فعل، ومحرِّضات أحلام. يتمثلها قبل يمثِّلها عبر استعادة ما تبقى من إرث ذاكرته البصرية التي يشبِّهها بـ "الصندوق السحري للمصور الشمسي قبالة دار العدالة". ولا أدري إن كان هذا التشبيه موفقاً على الرغم من جماليته. تعينه ذاكرة تخيلية تحيل الواقعي الحسي إلى شعر وأسطورة. ولذا نراه حين تعييه الذاكرة يلوذ بالمجاز. وحين تتسع لديه مساحات الغياب يستنجد بأحابيل اللغة ومكرها. لكن ثقل الواقع وضغطه لا يدعه يبتكر مكاناً متخيلاً معززاً بتاريخ مؤسطر وأحلام هاربة متشظية على غرار بصرياثا محمد خضير. أو مدن إيتالو كالفينو اللامرئية. فهو سعى كما يخبرنا لصياغة هيتروتوبيات وهي في عرفه؛ "يوتوبيات مغايرة تُفترض من خيال الأمكنة اللامرئية في الأمكنة الحقيقية"، لكنه لم يُكمل مشروعه مثلما يجب، ومثلما كنا نتمنى.   يبدو أن الزيدي رسم في البدء خريطة واسعة لأمكنته التي رشحها للكتابة عنها. ولم تكن علاقته بها من حيث التجربة معها وفيها، ودرجة الحميمية، ناهيك عن المعرفة الخابرة، في مستوى واحد. لهذا جاءت بعض نصوصه في الكتاب شاحبة وبعض مشاهده مفتعلة. في مقابل نصوص ومشاهد انطوت على قيمة أدبية ووثائقية وجمالية مميزة.    في هذا الكتاب نجد الزيدي مغرماً بالتعريف المجرد، ولكل مكان في كتابه تعريف ما. وفي هذا المفصل تتباين قوة صياغاته وإنشائه ففي سبيل المثال يصف الناصرية بأنها "في التاريخانية الحديثة تنتمي للغرابة أكثر مما تنتمي لحضن الواقع البسيط". وأعتقد أن استخدام اصطلاح التاريخانية، في هذا السياق، لم يكن في محله. أما عن المقهى فيقول أنها "انفلات من قبضة تراص الهموم وثقلها الذي لا يُطاق". لكنه يعود ويصفها ثانية بعبارات أكثر سلاسة وصفاء وأعمق دلالة متخلصاً من جفاف بلاغته الفضفاضة في العبارة الأولى:  "هي الملاذ الآمن للغرباء والمشردين والتقاء الصحبة ومواعيد الضحك واتفاقات النهارات  القادمة.. المقهى التعبير الخفي عن تقويض فكرة آصرة العشيرة والريف". وفي موضع آخر يحدِّثنا عن الشارع الذي يراه "أرضية رحبة لمعصية الوالدين". تستثيره عبارة أولاد الشوارع وتمنحه فرصة تأمل الشارع عن قرب "آه ليتني كنت شوارعياً بختم أحمر لأروي ما حدث بالطريقة التي ترضي طموح أبناء جنسي المنسيين". وهذا اعتراف صادق. فالزيدي بقي متردداً في استكناه أسرار المدينة، ولامس بعض الوقائع على استحياء كما لو أنه يحذر لوم وغضب الأحياء والأموات. وظل كائناً بيتوتياً.. يقول في تصديره لكتابه؛ "قطعاً يا بني ستشيب في ذات البيت الذي ولدت فيه.. أتعرف لماذا؟ إنها دعوة أمك عليك..". وهكذا لم يغادر البيت أبعد بما يكفي لكتابة تتمادي في انتهاك المحرّمات. ومن أجل إكمال لوحة كتابه كان على الكاتب أن يخصص فصلاً واحداً على الأقل للبيت الذي نشأ فيه. بتأكيد أنه يعرف بيته أكثر من أي مكان آخر. مع هذا كانت ثمة فصول ممتعة وغنية بتفاصيلها عن شارع الحبوبي ومحطة قطار الناصرية، ومناطق أبو غار والمسنّاة، والأسود عراقي النكهة ( الشاي )، وشاشة الأحلام.   الأمكنة تكتبنا طوال الوقت، ومن واجب الوفاء على الكاتب  أن يرد لها الجميل بجعلها مناسبات كتابة. وخضير الزيدي سارد ومؤرشف دؤوب، بكتابه (أمكنة تدعى نحن) ربحت الناصرية وربحنا نحن العراقيين، عملاً جيداً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

دستويفسكي جوهر الروح الإنسانية

دستويفسكي جوهر الروح الإنسانية

لكن الفكرة المركزية التي سيطرت على دستويفسكي كانت الله والذي تبحث عنه شخصياته دائما من خلال الأخطاء المؤلمة والإذلال.يقول دستويفسكي على لسان الأمير فالكوفسكي في رواية مذلون مهانون (.... لكنك شاعر ,وأنا إنسان فان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram