السید عمار أبو رغیفمعيار التمييز المتأصل في المنطق الاستقرائي هو اعتقاد الوضعيين ونظريتهم في «المعنى» ، وهو يتوافق مع القاعدة التي تقرر أن جميع قضايا العلم التجريبي (أو جميع القضايا ذات المعنى) يجب أن تكون جديرة في نهاية المطاف بالتحقق منها. وبالالتزام بصدقها أو كذبها علينا أن نقول أنها يجب أن تكون «فاصلة بحسم».
وهذا يعني أن صورة هذه القضايا يجب أن تكون ممكنة منطقياً سواء أكانت للإثبات أم للتكذيب. ومن هنا قال «شليك»: «... القضايا الأساسية يجب أن تكون جديرة بـ الإثبات الحاسم»، لكن «وايزمان» قال بوضوح أكبر: «القضية التي ليس هناك أي طريق لتحديد صدقها قضية لا معنى لها؛ إذ أن معنى كل قضية هو عين نهج إثباتها"القسم الثالث6 ـ قابلية التكذيب معيار للتمييزأما في ضوء رؤيتي فليس هناك شيء أسمه الاستقراء. لذا فاستخلاص النظريات من القضايا الشخصية (التي أثبتت تجريبياً) ـ بأي معنى ممكن أخذنا الإثبات ـ مرفوض منطقياً، أذن فالنظريات لا تثبت تجريبياً ابداً. إذا أردنا أن نتجنب الخطأ الوضعي بإزاحة الأنساق النظرية من دائرة العلم الطبيعي بواسطة معيارنا للتمييز، وجب علينا عندئذ أن نختار معياراً يوافقنا على إدخال القضايا في إطار العلم التجريبي، حتى إذا لم يمكن إثباتها.لكنني سأجيز بالتأكيد النسق وأدعوه تجريبياً أو علمياً إذا كان جديراً فقط بالاختبار التجريبي. هذه الاعتبارات تشير إلى أن الأمر ليس أثباتاً، بل تكذيباً للنسق ليقدم معياراً للتمييز وبعبارة أخرى: أنا لا أتوقع أن يكون النسق العلمي جديراً بالتميز على أساس قابلية الإثبات في كل الأحوال، بل أتوقع أن يكون بناؤه المنطقي بطريقة يتميز عبرها بقابلية النفي على أساس الاختبارات التجريبية. فكل نسق علمي تجريبي يجب أن يتمتع بقابلية التكذيب تجريبياً.(لذا فقضية «سوف تمطر هنا غداً أو لا تمطر» لا أعدها قضية تجريبية؛ لأنها لا يمكن أن تكذّب، بينا قضية «سوف تمطر هنا غداً» أعدها قضية تجريبية).يمكن أن تـُقام اعتراضات مختلفة ضد معيار التمييز الذي اقترحته هنا. في المرتبة الاولى قد يبدو الخطأ الأساسي في أن العلم الذي يفترض أن يقدم لنا معلومات إثباتية قد ميزناه بشرط سلبي نظير القابلية للتكذيب. سأبين في الفقرة 31 ـ 46 أن هذا الاعتراض ضئيل الوزن. إذ أن قيمة المعلومات الاثباتية حول العالم، التي تحتويها القضايا العلمية ستكون أكبر إذا كانت هذه القضايا بسبب سمتها المنطقية تحمل إمكانية اكبر للتعارض مع القضايا الشخصية (ليس هباءً أننا نطلق على أحكام الطبيعة مصطلح «قوانين»؛ فكلما كانت القضية أكثر ما نعية كانت أكثر حكايةً).وأيضاً يمكن أن يكون السعي لعطف انتقادي الذي سجلته على معيار التمييز الاستقرائي وتوجيهه ضدي. فمن الممكن أن يبدو أن النقد يمكن أن يوجه ضد قابلية التكذيب كمعيار للتمييز على غرار النقد الذي وجهته ضد قابلية الإثبات والتحقق.هذا الاعتراض لا يزعجني، فأطروحتي تأسست على، لا تماثل بين قابلية الاثبات وقابلية التكذيب؛ لا تماثل ناتج من الصورة المنطقية للقضايا الكلية، هذه القضايا التي لا تستنتج بوجه من القضايا الشخصية، بينا يمكن نقضها بواسطة القضايا الشخصية. لذا يمكن أن نتخذ من صدق القضايا الشخصية دليلاً على كذب القضايا الكلية، وذلك بالاستعانة بالاستنتاجات القياسية (القياس الاستثنائي برفع التالي في المنطق التقليدي). وهذا النحو من الاستدلال على كذب القضايا الكلية قياسي فحسب، يسير الدليل فيه من القضايا الشخصية إلى القضايا الكلية، فيكون حاله حال سير الدليل الاستقرائي.لعل الاعتراض الثالث يبدو أكثر جدية؛ إذ لعل هناك من يقول لو سلمنا باللاتماثل فلا تزال هناك أسباب مختلفة لاستحالة التكذيب الكامل لأي نسق نظري. ولذلك يمكن على الدوام العثور على بعض الطرق للتخلص من التكذيب، كما لو ادخلنا عنصراً فرضياً أو أجرينا تعديلاً على هامش تعريف. ويمكن أيضاً ـ دون الوقوع بتناقض ـ متابعة الموقف الذي يرفض الاعتراف بأي تكذيب تجريبي، أيٍّ كان. ورغم أننا نعرف أن سلوك العلماء يغاير هذه الطريقة، إلاّ أن إمكان هذا الأمر منطقياً، يمثل لدى الخصم ـ على الأقل ـ خللاً في القيمة المنطقية لمعيار التمييز الذي طرحته.ينبغي أن أعترف بعدالة هذا النقد. ولكن لست بحاجة لاجل هذا النقد إلى التراجع عن أطروحتي بالأخذ بمبدأ التكذيب كمعيار للتمييز. ذلك سأطرح في (الفقرة 20 وما بعدها) أن المنهج التجريبي ينبغي أن يمتاز كمنهج يقصي تماماً تلك الطرق المعدة للتهرب من التكذيب، التي ـ حسب تصوري ـ تبقی ممكنة منطقياً، كما يصر الخصم بحق. وفقاً لأطروحتي؛ فما يمتاز به المنهج التجريبي هو أنه صيغة لتعريض القضايا المعدة للاختبار إلى التكذيب، بكل طريق ممكن.ليس هناك تطلع لاستهداف الأنساق الواهية، بل على العكس، لانتقاء الانساق الاصلح نسبياً، عبر تعريض جميع الأنساق للصراع الشرس من أجل البقاء.أن معيار التمييز المطروح يسوقنا أيضاً إلى حل مشكلة الاستقراء لدى «هيوم»، أي مشكلة صدق القوانين الطبيعية. وجذر هذه الإشكالية يكمن في النتاقض الواضح
(كارل بوبر) نصوص ودروس
نشر في: 5 يونيو, 2010: 04:43 م