طالب عبد العزيز
في دورةٍ حياتية عجيبة، وجدتني مفرداً، اسكن غرفةً، هي الاصغر في البيت، صحبة سرير وطاولة للكتابة، تحيطني أرفف مكتبتي، وقطع أثاث هي الابسط والاصغر والاخفّ، بعد مسيرة حياتية طويلة، وتنقلات بين غرف، وأسرة مزدوجة، عديدة،
ومثل كل رحلة تقليدية، ليس فيها ما يستوقف ويستدعي الانتباه، ابتدأتْ بسرير صغير من جريد النخل، في بيت الأجداد القديم، وانتهت بسرير مفرد، أحدث قليلاً في البيت، الذي شيدتُه، قبل سنوات، لا أظنني، الوحيد الذي اختار بإرادته، أو بدونها أن يختلي بنفسه، ويعود الى حيث كان فرداً، يتأمل حياته بعيداً عن سرير الزوجية الكبير.
كنتُ احدّثُ نفسي بجملة الشاعر محمود البريكان:” الشعر هو الذي يجب أن تكرّس له حياة كاملة” وقولته الاخرى التي يصف الزواج فيها بانّه “عدوُّ الشعر” فأتاملُ الخسارات التي تتسبب الاسرةُ بها للشاعر والكاتب والفنان! وأقول: لكنها الخسارات التي لا بد منها. ففي الشرق، حيث يكون المجتمع والاسرة ضامنين لحياتنا، في ظلِّ غياب كامل للقوانين الضامنة للحياة بعامة، على خلاف الصورة المعلنة في المجتمعات الاخرى، والتي يُمنح الفرد فيها، متزوجاً كان أو لا، حقه في الرعاية والعناية به الى لحظات حياته الاخيرة. ترى، كم ستكون الاقامة مكلفةً تحت شجرتي الشعر والكتابة من جهة والزوجة والاسرة من جهة اخرى؟
في معاينة منصفة نجد أننا اخترنا (التوفيق) بين حياتين، لا مشتركات بينهما، تلتهم الواحدة بذار الاخرى، لذا، لا نجد في أدبنا وثقافتنا ما هو استثنائي ومفارِق، اللهم، إلا ما يتسرب من بين يدي بعضنا هنا وهناك.
كانت محاولتي بإفراد سريري هي الاخيرة، بعد سلسلة محاولات، أخفقت في تحقيقها، حيث تكشّف لي بأنَّها من أصعب ما تواجهه الزوجة، لكنني، والحقَّ اقول: بأنَّ العودة الى السرير الاول هي واحدة من متطلبات العمل الفكري الجاد، ففي الليل، حين يركن الخلائق الى أسبابهم، وتهجع الارواح في مهاويها، تبقى الروح الشاعرة خارج المشهد التقليدي، تماما، فلا بابٌ يطرق، ولا مصباحٌ يضاء، ولا هاتفٌ يرن، وكل ما في المحيط أثيرٌ، يتردد عليك بلغات مجهولة، لكنها تُفهم بالايماء وبالاشارة، تحرّضك على مغادرة السرير، وتدعوك الى ترك التوهمات، أوما يتشبه بالحلم، فتقوم، وئيد الخطى، تتهجى رموز اللغة تلك، وبين اغماضة عين وانتباهتها تبدأ رحلتك العظمى بين الطاولة، حيث أوراقك وأقلامك وآلتك الحاسبة، تمدُّ يداً عارفة، غير ملزَمة بتأمين طلبات لأحد، ولا مسؤولة عن مكواة عاطلة، محررة من كلِّ قيد، في اللحظات تلك تكون قد أوصدت البابَ على التفريط.
لم تُكتب الاعمالُ العظيمة في بيوت كثيرة السكان، وصاخبة، إنما كُتبت في أمكنة هي اليوم بمثابة المتاحف. لذا، لا يحقُّ لأحدٍ التقليل من أهمية اختيار الكاتب والشاعر والفنان العزلة، فما ذلك بتكبّر منه، ولا مروقٍ على سياق اجتماعي عام، إنما هو الضرورة عينها، وإذا كانت الاسرةُ غير معنية بتأمين المكان اللائق للكتابة، لأمثال هؤلاء، فهي ترتكب فعلاً شنيعاً. وسوفَ تتحطم المواهب، وسيخسرون، ونخسرُ من جهدهم الكثير.