طالب عبد العزيز
كنتُ سأكتبُ كتاباً عن الاشرعة، إلا أنَّ ماكنة الزيت أفسدت الفكرةَ عليّ، فلا حاجة لي بعد اليوم برفع اصبعي، والتكهن بحركة الريح غرباً أو جنوباً، وما عدت انظر الى النجوم إذا ما إنحرفَ سيرُ مركبي الصغير، فلا خشية من ارتطامه بالصخر،
لقد شجّعت الهواتف الذكية وخرائط الـ G.B.S الحديثة البحارةَ على السخرية منّي، والتندر بمعرفتي، التي لم تعد تعني لأحدهم شيئاً، لذا، سأتركهم يبحرون حيث شاؤوا، وساهبط البحر، باحثاً عن جزيرة خالية، لم يشاهدها أحدٌ من الطلاب في اطلس المدرسة، وسأسعدُ بقضاء أيامي الاخيرة هناك، صحبةَ الاحراش، والسلاحف، والقواقع التي ستتسلل بالليل الى فراشي، وساطعمها ما تبقى في صرّة متاعي من الخبز والتمر.
عند المقطع الصغيرهذا، في القرطاس، الذي عثرتُ عليه مصادفةً، كان البحّار قد توقف عن الكتابة، لعله انشغل ببناء بيته الجديد، بعيداً عن البحر ليلاً، في احتجاج واضح، وربما يكون قد ذهب لإطعام مخلوقات جزيرته وافترسه احدها، مما اضطره الى ترك الكتابة، أو انه كتب شيئاً أخر في قرطاس ثان، متحدثاً عن آلامه الجديدة، في مغتربه، الذي اختاره هناك، ولم نعثر عليه، وربما يكون قد عانى من ضمور في عضلات يديه، اللتين اعتادتا سحب الحبال، ونصب الاشرعة، وانتشال السلاسل الثقيلة من الماء، فلم يعد قادراً على الكتابة. بمثل هكذا بدايات يمكننا إنشاء قصة، وتأثيث مادتها بما نتخيله، والاتيان بحياة غريبة، ومفارِقة، لبطلنا البحّار، فكل التوقعات ممكنة، وليس لأحد الحق بفرض علينا تفاصيل لحياته، لكننا، بالتأكيد، سنبحث عن نهاية ملائمة.
لكنَّ أي نهاية سعيدة ستبدو سخيفة جداً هنا، إذْ ما معنى عودته على ظهر سفينة، أضطُر بحّارتُها الى التوقف في جزيرته هذه، وانهم ارادوا دفن بحّار عزيز عليهم، مات بضربة شمس، او حزَّ حبلُ الحنين رقبته فمات في نوبته الليلية على ظهر المركب، وأنهم، فجاة عثروا على قرطاس صغير، عليه أصداف أسماك بحرية عملاقة، وتزكم الانوف رائحة موت قريب.. وأنهم انتشروا في احراش الجزيرة بحثاً عنه.. لا، لا أبداً، مثل هكذا نهايات لا تبدو مشجعة، وأنها تشبه ما نطالعه في كتب البحارة الفايكنج، او في قصص ومذكرات قراصنة شبه الجزيرة الايبرية، لا، مستحيل، فالقصة الى الان تسير على وفق مشيئة الكاتب البّحار، الذي لم يترك لنا نهاية بعينها هو أيضاً.
في جانب من حياتنا نرى بأنَّ قصة حياتنا تشبه الى حدٍّ ما قصة البّحار التي لم نعثر على نهاية لها بعد، حياته ببدايتها المفتوحة والمعلنة، لكن بنهايتها المغلقة. هو لم يقل لنا بانه أُضطُهد من نظام سياسيّ، أو عاني من تشدّد حزبٍ ديني، او من انهيار أسعار العقار .. ولا من شيء آخر، إنما عانى من حياة فقد معنى وجوده فيها. !!!