لطفية الدليمي
ليست أياماً كثيرة تلك التي أوفّرُ نفسي وعقلي فيها لقراءة كتاب محدّد . ليس هذا من تقاليدي الشخصية . لاأرتاحُ عادة إلا لممازجة قراءاتي فيما يشبه خريطة قراءة تتقاطع فيها السّيَرُ مع الأدب مع الفلسفة مع العلم . ربما نشأت لديّ هذه العادة بعد أن أنِسَت نفسي لمحاولة البحث عن تلك الخيوط المعرفية الرفيعة - التي لاتكاد تُرى – والتي تجمعُ بين شتى المناشط المعرفية في هذا العالم .
كان مفتتح أيلول إيذاناً لي بقراءة السيرة الذاتية للدكتور الراحل جلال أمين . لم تكن معرفتي بالراحل سوى معرفة سياحية عامة إقتصرت على مشاهدة بعض اللقاءات التلفازية له فضلاً عن بعض مداخلاته الصحفية ومقالاته المنشورة في مطبوعات توصف باليسارية ، وهنا أشيرُ لتفصيلة باتت أقرب إلى إشكالية مُرّة : صار حسّ التمادي الأصولي في الموقف الآيديولوجي أقرب إلى مذهب فكري في عالمٍ تكشّف فيه خواء المذاهب الآيديولوجية؛ بل وحتى الرؤية العلمية المعقولة من الحياة صارت مطبوعة بعلموية خشنة تبعث النفور في العقل والروح .
كان إنطباعي العام عن جلال أمين أنه أحد هؤلاء اليساريين الراديكاليين الجُدُد المنتمين إلى " اليسارية الجديدة " ؛ ومع أنّ سيرته الذاتية كانت موضوعة على قائمة قراءاتي لكنها كانت تتأجل بفعل قراءات وجدتها أكثر جدوى منها ( أو هكذا حسبتها في الأقلّ ) ، ولستُ أنكِرُ هنا أنّ عنوان الكتاب الأول في السيرة الذاتية للراحل جاء بعنوان ( ماذا علّمتني الحياة ؟ ) – الأمر الذي أثار في نفسي نفورا من شعبوية العنوان التي شابهت عناوين الأفلام العربية القديمة .
بدأت أواخر آب بقراءة ( ماذا علّمتني الحياة ؟ ) وهو الكتاب الأول في السيرة الذاتية لجلال أمين، نشرته دار الشروق عام 2007 ؛ فإذا بي أمام شخصية ذات مزايا متفوقة وأخلاقيات رصينة يتحسسها المرء في تفاصيلها الدقيقة. يتناول أمين في الفصول الأولى ولادته وتأثير تربية والده ( أحمد أمين ) على تنشئته هو وسبعة من أخوانه وأخواته، كما يتناول علاقة أبيه بأمه، وطبيعة العلاقات السائدة في البيت، وأصدقاء الصبا ومباهجهم، ثم الجامعة ( كلية حقوق القاهرة ) والبعثة إلى كلية لندن للإقتصاد والعلوم السياسية للحصول على الماجستير والدكتوراه في الإقتصاد ، ثم يتناول عودته إلى مصر وعمله مدرّساً في جامعة عين شمس، ثم عمله في الصندوق الكويتي للتنمية
، ومن بعدها الجامعة الأمريكية، ثم يتناول الحديث عن سنة قضاها زائراً في جامعة كاليفورنيا / لوس أنجلس عام 1978 وكانت نتيجتها كتابه المهم ( المشرق العربي والغرب ) الذي نشره مركز دراسات الوحدة العربية. أنهى أمين سيرته هذه بفصول ثلاثة شديدة الإمتاع والأهمية : التراثيون الجدد ، المرض والشيخوخة ، البدايات والنهايات، وهي في جوهرها تفكّرات فلسفية في معنى الحياة والوجود وقيمة الفعل الإنساني .
الكتاب الثاني في سلسلة السيرة الذاتية لجلال أمين هو ( رحيق العمر ) ، وهو تفصيلات دقيقة على هوامش بعض الموضوعات التي جاءت بعناوين عامة في الكتاب الأول ، وحسناً فعل الراحل بهذه التفصيلات الدقيقة التي أبانت عن قدرته السردية المذهلة – المماثلة لقدرة روائي محترف – في الكشف عن تفاصيل ذاتية ومجتمعية صغيرة لكنها عظيمة الفاعلية في تشكيل حياة الفرد ومجتمعه .
تابع أمين سيرته الذاتية في كتاب ثالث بعنوان ( مكتوب على الجبين : حكايات على هامش السيرة الذاتية ) خصّصه لتفاصيل بعينها في موضوعات محدّدة .
قراءة هذه السلسلة من كتب السيرة الذاتية للراحل جلال أمين أضافت لي الكثير من الفائدة والمتعة ، وكشفت لي تفاصيل مهمّة عن تطوّر المجتمع المصري خلال ثمانين عاماً .