جوليان باغيني Julian Baggini (مولود عام 1968): فيلسوف وصحافي ومؤلف بريطاني ألّف ماينوف على العشرين كتاباً في الفلسفة موجّهة للقارئ العام،
وهو أحد مؤسسي مجلة الفلاسفة Philosophes’ Magazine ذات الشهرة العالمية. بالاضافة لمؤلفاته ومنشوراته البحثية العديدة في حقل الفلسفة فقدتناول باغيني أيضاً موضوعات متعددة مثل: العلمانية وطبيعة الهوية الوطنية.
أقدّمُ في هذا القسم – وقسم لاحق يتبعه – ترجمة لفصل منتخب من كتاب باغيني المعنون (الفلسفة: كلّ مايهمّنا عنها Philosophy: All That Matters) المنشور عام 2013. ربما من المفيد إعلام القارئ بأنني سبق أن نشرت قسمين مترجمين من مادة تخصّ هذا الكتاب في أعداد سابقة من (المدى).
المترجمة
جوليان باغيني
ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
لو قبلنا حقيقة أنّ ثمة أسئلة فلسفية (بعضها في أقلّ تقدير) تواجهنا بطريقة حتمية لامهرب منها، وأنّ مثل هذه الاسئلة تستحق عبء استهلاك بعض الوقت للاجابة عنها ؛ فكيف يمكننا والحالة هذه الشروع في هذا المسعى؟ على الرغم من أنّ فلاسفة مختلفين إتخذوا عدداً من المناهج والستراتيجيات المتباينة ؛ لكن يبقى ممكناً في نهاية المطاف (وإن كان الأمر لايخلو من مجادلة غير متفق عليها في أحيان قليلة) وضع هؤلاء الفلاسفة في فريقين، ولايعكس هذا التوزيع التصنيفي محض مقاربتين فحسب بل يشيرُ إلى مزاجين فلسفيين أساسيين. منذ فجر الفلسفة الغربية قدّم فيلسوفان (يمثلان مثابتين مضيئتين) معالم طريقين متمايزين للفلسفة صارا لاحقاً أساساً مكيناً لكلّ فلسفة تالية. هذا الفيلسوفان هما أفلاطون وأرسطو.
عاش أفلاطون وأرسطو مواطنَيْن عاصر أحدهما الآخر في أثينا إبان ذروة مجدها. كان أفلاطون هو الأكبر عمراً بين الاثنين، وكان أرسطو تلميذه لبعض الوقت في الأكاديمية The Academy التي كانت نموذجاً تعليمياً يعد وسطاً بين جامعة ونادٍ خاص لأعضاء منتخبين. أسّس أفلاطون الاكاديمية حوالي عام 387 قبل الميلاد، وظلّ أرسطو عضواً فيها لما يقاربُ العشرين سنة قبل أن يغادرها ويشرع في تأسيس نسخته الخاصة من الاكاديمية، الليسيوم The Lyceum، حوالي عام 335 قبل الميلاد. برغم هذه التشابهات التي لاتخفى في سيرتي الفيلسوفين فقد اتخذ كل منهما مقاربة فكرية مختلفة عن الآخر في النظر إلى موضوع الفلسفة.
تتجوهر نظرة أفلاطون – مثلما يحفظ كثيرون منّا – في المثال الاستعاري للكهف The Cave، حيث يُقارنُ السواد الاعظم من البشرية بسجناء في كهف يكتفون برؤية أشباح على جدار الواقع. أي واحد من هؤلاء السجناء (الفيلسوف على وجه الدقة) هو من يغادر الكهف ويرى ضوء النهار (الشمس)، ومن ثمّ هو من يمثلُ الواقع النهائي (الحقيقة الكبرى). يُصابُ الفيلسوف بالعشى أول الامر بفعل ضوء الشمس، ثم بعد عودته إلى الكهف ثانية لايستطيع إقناع الآخرين بأنه إكتشف الحقيقة بينما هم أدمنوا العيش مع أوهامهم.
لكن ثمة مقايسة أخرى في جمهورية أفلاطون تنبئ عن خط فاصل، وهذه المقايسة وإنّ كانت تفتقد حرارة الدراما الكامنة في مقايسة الكهف لكنها في وجوه كثيرة منها تعكس بطريقة أكثر دقة روح الفلسفة الافلاطونية. هذا الخط الفاصل موزّعٌ على أربعة أجزاء، كل جزء منها يمثلُ طوراً في الفهم البشري ابتداءً من الاكثر بدائية إلى الاكثر تقدّماً. يمكن والحالة هذه تصوير هذا الخط الفاصل بهيئة سُلّم Ladder: كلّما ارتقيت نحو الاعلى تصبح أكثر قرباً من المعرفة الحقيقية.
العتبتان اللتان في أسفل السلّم تمثلان الرأي المجرّد (doxa)، وفي هاتين العتبتين كل مانؤمن به هو محض أوهام (eikasia) مؤسسة على افتراضات، كلها بالية، ولاتقوم حتى على العالم المادي بل على تمثلات (شخصية) له. التمظهر المعاصر للأوهام الافلاطونية هو أن تجعل كل آرائك مؤسسة على ماتقرأ وترى في الاعلام أو المواقع الالكترونية لحظية التواصل (الاونلاين) من غير أن تسائل محتوى هذه المقروءات والمرئيات ومن غير أن يكون لك خبرة ناضجة ودقيقة بالناس (أو الوقائع) الموصوفين في هذه الاخبار الاعلامية.
واحدة من الخطوات في السلّم الافلاطوني باتجاه الاعلى هو الاعتقاد (pistis): هنا يكون الرأي الشخصي أصيلاً وغير مستمد من مصادر مزيّفة، وقد يشمل هذا الطور معتقدات تكوّنت لدينا عبر المساءلة العلمية أو التأريخية. لماذا إذن بعد كل هذا لايزال هذا الصنف من المعتقدات ينتمي إلى فئة الرأي المجرّد بدلاً من اعتباره معرفة حقيقية؟ السبب – تبعاً إلى أفلاطون – يكمن في أنّ هذه المعتقدات مابرحت تقوم على إفتراضات، وأنّ العالم المادي لايمثل الواقع النهائي (أو الحقيقة الكبرى، المترجمة) بالنسبة له. العالم المادي شيء غير مكتمل، حيث كل شيء فيه يتغيّر على نحو لاينقطع. إعتقد أفلاطون، وعلى نقيض العالم المادي، بوجود نوعٍ ما من عالم (أو مملكة) تكون فيها الاشياء أبدية خالدة لايطالها التغيير. هذا هو عالم الاشكال. الاشكال المقصودة في هذه المملكة هي أنواعٌ من المُثُل Ideals الابدية غير المتحوّلة إلى أشكال أخرى والتي لاتعدو الاجسام المادية إلا أن تكون نسخاً فردية غير دائمة منها. لذا، على سبيل المثال، ثمة ملايين عديدة من الكلاب ؛ لكن ليس ثمة سوى شكل واحد فقط من الكلب.
قد نتساءل بشأن أن يكون أفلاطون قد فكّر حرفياً بوجود أشكالٍ من نوعٍ ما في عالم خاص بها ؛ لكن من الواضح أنه إعتقد بأنّ المفاهيم التجريدية abstract لها ثباتٌ وديمومة أبدية تفتقدهما الاجسام المادية، وأنّ المعرفة الحقيقية يجب أن تتوجّه نحو هذه المفاهيم التجريدية حصرياً بدلاً من التوجّه نحو العالم الفوضوي دائم التغيّر ؛ لذا نجد على العتبتين العلويتين في السلّم الافلاطوني المعرفة) episteme) التي تتطلبُ تحصّلنا على معرفة أصيلة بالاشكال (الافلاطونية). العتبة الاعلى من المعرفة تتعامل مع التفكّر الرياضياتي (diaonoia). الاعداد Numbers أشكال يمكن لنا أن نتعامل معها، وهكذا هي الرياضيات. يمكننا أن نرتفع في الصعود إلى الاعلى في السُلّم الافلاطوني ؛ لكن لن يكون بمستطاعنا بلوغ العتبة الاخيرة للسبب التالي: حتى الرياضيات يتوجّب عليها أن تقوم على افتراضات محدّدة. يرى أفلاطون أننا في العتبة العلوية الاخيرة من سُلّمه حيث نتحصّلُ على الذكاء الحقيقي (noesis) سيكون لنا حينذاك (وفقط حينذاك) معرفة أصيلة لايطالها الزيف بالعالم الحقيقي للاشكال (أو المُثُل الافلاطونية، المترجمة) التي لاتتأسّسُ على أية افتراضات من أي نوع كان. المعضلة الوحيدة هنا أن ليس من كائن بشري بلغ تلك العتبة. يوفّر خط التقسيم (السلّم) الافلاطوني خارطة لجبال المعرفة التي يمكن أن تواجهنا، ويبدو أفلاطون واثقاً من وجود قمّة في هذه الجبال ؛ لكن لم يوجد مستكشفٌ فكري بعدُ إستطاع ايجاد تلك القمّة ومن ثمّ الصعود نحوها.
إنّ التفكّر بشأن فيما لو كانت رؤية أفلاطون عن المعرفة الحقيقية هي رؤية متماسكة لم يكن بالموضوعة التي شغلت أهمية تذكر لنمط من التفكير الفلسفي ساد تأريخ الفلسفة منذ بداياتها وحتى يومنا الحاضر. تسعى المقاربة الافلاطونية إلى تأسيس مبادئ أولى First Principles آمنة، ومن ثمّ تشكيل صورة صحيحة عن الواقع باستخدام هذه المبادئ الأولى عبر اعتماد مساءلة دقيقة ومتماسكة. تدعى هذه المقاربة بالاساسية Foundationalist لأسباب توضح ذاتها بذاتها (لكونها تنطلق من مبادئ أولى أساسية، المترجمة). بقدر مايختص الامر بأفلاطون فهو لايرى في هذه المبادئ الاولى الاساسية حقائق ناجزة عن العالم المادي بقدر ماهي حقائق منطقية قابلة للتبدّل، مبادئ يمكن تأسيسها بالاعتماد على العقل Reason فقط وليس التجربة أو الملاحظة. هذه المبادئ شاملة وتجريدية، وهذا النمط من المساءلة العلية يدعى المساءلة القبْلية A Priori Reasoning (تعني حرفياً الانطلاق من ماقبلُ إلى مابعدُ) – أي البدء من هذه المبادئ الأولى للتحصّل على حقائق محدّدة بشأن العالم المادي. ليس أمراً حصل بمحض مصادفة عارضة أن يكون الموضوع الأقرب إلى الفلسفة تبعاً لهذه الرؤية الافلاطونية هو الرياضيات ؛ لأنّ الرياضيات هي التي توفّر نموذجاً لما يتوجّبُ أن تكون عليه الفلسفة: التقدّم بخطوات منطقية واضحة، وتقديم براهين اعتماداً على مبادئ أولى ثابتة ولاتعتمد صدقيتها (أي صحتها، المترجمة) على حقائق من العالم المادي. على كل حال لم تكن هذه المقاربة الافلاطونية هي المقاربة الوحيدة في الفلسفة مثلما أبان التلميذ الشخصي لأفلاطون (المقصود هو أرسطو بالطبع، المترجمة).
يتبع