السید عمار أبو رغیفالقسم الخامس(2)السؤال المركزي الذي نطرحه على فيلسوف العلم المعاصر (كارل بوبر) في هذه الفقرة من متابعتنا لفلسفة الرجل هو: لقد ذهبتَ إلى ابطال دور الاستقراء كمنطق للمعرفة العلمية، وكأساس للاستدلال على قضايا العلوم،
وذهبت إلى أن المعرفة العلمية تجريبية، ودور التجربة يتركز على إبطال الفروض وتكذيبها، وسيكون تكذيباً قياسياً، أي سيصدق التكذيب على أساس قاعدة المنطق الاستنباطي، حيث تمثل التجربة سالبة جزئية لا يتحقق عبرها الفرض، الذي هو بدوره موجبة كلية، وعندئذ يلزم كذب الفرض إذا صدقت التجربة، والسؤال كيف تصدق السالبة الجزئية، وكيف وعلى أي أساس يتم الوثوق بالتجربة؟ لقد تنبه (بوبر) في الفقرة (7) من الفصل الاول من كتابه (منطق الكشف العلمي) إلى إشكالية أساس التجربة، وخصها بهذه الفقرة وفقرات لاحقة من الكتاب، وهو يقول: (إن هذا المعيار (الذي اتخذه في تمييز المعرفة العلمية عما سواها) فرض علينا أن نستبدل البحث عن تشخيص النظرية التجريبية بالبحث عن تشخيص أي القضايا تجريبية) لنرى كيف عالج السلف من الحكماء هذه الإشكالية، وعلى أي أساس: أن الاعتماد على التجربة لا يتسنى بإقامة تجربة تصدقها ولا يُتاح بإقامة برهان عليها. إي اننا حينما نقوم بتجربة أو ملاحظة فنثق بها ونعتمدها في تكذيب نقيضها، كأن نشاهد أن الحديد لا يتمدد بالحرارة في تجربة من التجارب، حيث نحصل على القضية التي تقول (بعض الحديد لا يتمدد بالحرارة) وبهذا نكذّب القانون الكلي (كل حديد يتمدد بالحرارة)، فليس لدينا في هذا المثال الافتراضي إلاّ المشاهدة الحسية، إي ليس لدينا سلاح يمكننا من الاعتماد على النتيجة سوى الحس.rnأساس التجربة إذن الأساس الوحيد الذي يمكن الركون اليه في الاعتماد على التجربة هو الإحساس البشري. فما هي القيمة المعرفية لهذا الأساس، وكيف يتم الاعتماد عليه، وإلى أي حد؟الأرسطيون (الذين سيطروا على المعرفة الإنسانية ردحاً طويلاً من الزمن، ولا يزالون يحكمون قبضتهم في زوايا كثيرة من العالم على هذه المعرفة) عالجوا الموقف عبر حشر (الحسيات) في دائرة مبادىء العلم وأساسيات المعرفة، على حد الأوليات البديهية الاخرى، التي اتخذوا منها قاعدة لهرم المعرفة الانسانية. ولم يأبه الاتجاه الأرسطي بالتشكيك في معطيات الحس ووقوع الخطأ فيها، لانهم يقولون ان البديهيات يقع الخطأ في استخدامها ايضاً، بل تعترض البعض شبهات مقابل البديهيات فيشككون فيها، وهذا التشكيك وتعرض البديهيات لوقوع الخطأ في استخدامها لا يؤثر بحال في بداهتها، والحال كذلك بالنسبة للحسيات، فوقوع الخطأ فيها لا يؤثر على اوليتها، وكونها أساساً ومنطلقاً للمعرفة الأنسانية.اما الموقف لدى الفلاسفة المحدثين فهذا ما يستدعي استعراضاً لمواقف إعلام الفلسفة الحديثة بدءً من ديكارت وانتهاء بالمناطقة الوضعيين، الذين استهدفهم (كارل بوبر) بالنقد إي استهداف: ديكارت: لصاحبنا اتجاه يقرر أن هناك أفكاراً فطرية، يتوفر عليها الكائن الانساني كفكرة الله والأفكار الرياضية الأساسية، وإلى جانب ذلك يتوفر على فكرة فطرية يدركها بشكل قبلي سابق للحس والتجربة وهي الفكرة الوحيدة عن المادة، وهي (الامتداد)، حيث يجدها العقل بذاته، دون ان يستمدها من التجربة. ولهذه الصفة (الامتداد) اعراض تطرأ عليها، وهي مما تتميز به الاشياء في عالم الطبيعة كصفات الحجم، الشكل، الحركة، الوضع، العدد ... والانسان يستطيع أن يتصور هذه الصفات بشكل واضح متميز عمّا تتصف به الاجسام من صفات اخرى.وذهب (ديكارت) إلى أن الامتداد واعراضه تأتي واضحة في الذهن، وتنبثق فيه تلقائياً، ومن ثمَّ فهي اولية قبلية، وبما انها قبلية فمن الممكن ان توجد في عالم الواقع اشياء طبيعية تتصف بهذه الصفات.اما الصفات الاخرى للجسم كاللون والرائحة والطعم والصوت ودرجة الصلابة وغيرها فهي صفات ثانوية، تأتي مختلطة غير واضحة. ومن هنا يميل (ديكارت) إلى القول بأن الصفات الاولية موجودة بالفعل في الاشياء الطبيعية وجوداً لا يختلف عن حالتها وهي معطی حي، خلافاً للصفات الثانوية فهي غير موجودة في الأشياء.لكن يبقى على (ديكارت) ان يبين الضمانات، التي تؤكد لنا تطابق المعطى الحي الاولي مع واقع الاشياء الموضوعية القائمة في العالم الخارجي؛ كيف يتسنى لنا الوثوق من ان الصفات الاوليه للأشياء كالامتداد والصلابة والشكل والحركة والعدد تتطابق مع معطياتنا الحسية، وإن ما يدركه الاحساس من صفات الاشياء يعبر حقاً عن هذه الصفات، كما هي قائمة في الاجسام الخارجية؟ وهنا يلجأ (ديكارت) إلى الحجة الميتافيزيقية، ذلك ان اتصاف الله بالخير يجعل من المحال ان يخدعنا، وبما ان لدينا افكاراً واضحة عن الصفات الاولية للاشياء يلزم ان تكون هذه الصفات التي نجدها في احساساتنا مطابقة للاشياء الفيزيقية.ولكن ان تكون مفاهيم الامتداد والحركة والوضع ... مفاهيم قبلية تنبثق في الذهن امر يتطلب كثيراً من التحفظ ... ولو سلمنا انها مفاهيم قبلية، لكن كيف نستطيع ان ننتقل من هذه المفاهيم العامة (التي نسلم أن لها مطابقاً خارجياً، إي أن هناك امتداداً وحركة ووضعاً في الاجسام
فلسفة (كارل بوبر) فـي ضوء معيار النقد
نشر في: 7 يونيو, 2010: 05:02 م