TOP

جريدة المدى > من الصحافة > كلامٌ عاديٌّ جداً: وحش الشّعر

كلامٌ عاديٌّ جداً: وحش الشّعر

نشر في: 21 سبتمبر, 2021: 11:09 م

 حيدر المحسن

2

الأشعار تولّد أشعارا، كما أن على الشّاعر، في رأي إليوت، أن يكون أستاذا في النّثر، واختار حسين عبد اللطيف مقطعا حواريا من رواية سارتوريوس لويليام فولكنر أن يكون تقدمةً لكتابه الشعريّ الأول:

«- تحدّث عن الجنوب، ماذا يشبه، ماذا يفعلون هناك، لماذا يعيشون على أية حال؟

- إنك لا تستطيع أن تفهم، كان يجب أن تولد هناك».

فولكنر سليل أسرة تمتدّ جذورها في ولاية ميسيسيبّي في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، وتدور جميع أعماله حول الأمريكي الجنوبيّ، وكيف كان يعيش عزلة فرضتها على الواقع أحداث التاريخ، وأدّت بالنتيجة إلى أن جعلته يكابد خجلا مستديما يمنعه من أن يذوب في مجتمع غريب عنه في التفكير والمعتقد، مع توق شديد يعذّبه إلى الانفتاح على العالم. المحصلة الناتجة من هذه الخلطة النفسية أن صار لدى ابن الجنوب رغبة في التّحرّر والانعتاق، تكبحها حاجة ملّحة للبقاء في المكان نفسه، وإذا سافر أو هاجر دلّت عليه طريقتُه في المشي، وفي الكلام... هي غربة مستديمة إذن تسكن دماءَنا، وتلوّن وجوهنا وأيدينا وأقدامنا. تنتهي قصيدة “دوارة الرّياح” وقد أيقن حسين عبد اللطيف أنه يعيش تجربة عطيل، الزّنجيّ الذي صحا من النوم ووجد نفسه في بلد بعيد، وبين قوم لا يفهمون عنه:

«أيها السّاحر المغربيّ

تشربُ الحنطةُ الذهبي

من يديك»

هو زهو لا مثيل له بالأرض، وقد قيل في الماضي: “أرض المرء خير نسب له”. كما زاد من إحساسه بالاختلاف نوع الشّعر الذي جاءنا به. لا أحد من الشّعراء والنّقّاد الذين عاشوا في عصره يريد أن يعرف شيئا عن هذه التجربة الفنية الجديدة، وكان الشاعر ينشر قصائده وكأنه يرسل خطابات إلى الآخرين، وينتظر الجواب في رسالة تحملها قارورة.

في استهلال ديوانه الثاني نقرأ مقطعا شعريّا لبورخيس: “للأسلاف من دمي وللأسلاف من روحي قرّبت ذبائح من أشعار”، بالإضافة إلى كلام لريلكه: “من لا يبني بيتا الآن، لن يبني بيتا فيما بعدُ ومن هو وحيد الآن، هكذا، طويلا سيبقى”، والغريب أنه قدّم لكتابه الشّعريّ الرابع “لم يعد يجدي النظر” بهذا الاقتباس من الشّاعر الألماني نفسه، فهو يريد التأكيد على عزلته عن الآخرين، وكلما تقدم به العمر ترسّخ لديه شعور الافتقار إلى البيت -الوطن- أكثر. من أراغون اختار بعض الشعر مفتتحا ل”أمير من أور”، بالإضافة إلى قصيدة هايكو للشّاعر شيكي، واختار أن يستحضر طيف أبّولينار في قصيدة، بينما خلا كتابه الأخير الذي نشرته ابنته «رسال» بعد وفاته من أيّ تقديم.

الشّعر ينبع من الشّعر، فإذا أردنا معرفة المؤثّرات في تجربة حسين عبد اللطيف كشفت لنا هذه الاقتباسات الأمر، وأثبتت أنه قارئ مخلص للشّعر المترجم من كلّ مكان، ولم يكن يجيد لغة غير العربيّة، وهذا يفسّر التّشابه الغريب بين أعماله، حتى الموزونة منها، مع الشّعر الحرّ، ومع قصيدة النّثر. من شدّة إعجابه بالشاعر «سان جان بيرس» صار أحد أقواله جزءا من هايكو لدى شاعرنا:

«صمت مهول

في المساء، الثّلج

ليس لي إلاّ أن أعقد صداقة مع ركبتي!”

وكان «بيرس» عقد هذه الصّداقةَ قبل شاعرنا بسنين طويلة. بين قصيدتين من ديوانه الثاني، هما “فالس لآخر السّهرة” و “في عداد الذّكرى”، وبين إليوت تناضح إيجابيّ بيّنٌ، كما أننا نظلّ نتسمّع في صفحات كثيرة من «أمير من أور» إلى صوت والت وايتمان.

انشغل الشّاعر في سنواته الأخيرة بقصيدة الهايكو، وكانت حصيلته مجموعة عنوانها «بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق لقالقَ ميّتةً»، كما أنه أنجز كتابا شعريا مشتركا مع بابلو نيرودا، عنوانه “تساؤلات وإجابات”، وجاء بصورة تشبه المعارضة الشّعرية في الهايكو بين الاثنين، ولم تضمّ هذا الكتاب المجموعة الكاملة التي أنجزتها دار شهريار للشّاعر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

العثور على  افعى نادرة جدا  في العراق

العثور على افعى نادرة جدا في العراق

متابعة/المدى كشفت صحيفة ميامي هيرالد الامريكية عن تقرير قام به باحثون امريكيون، كشفوا خلاله عن العثور على "افعى نادرة جدا" في العراق بشكل متكرر، محذرين من قتلها او استهدافها.   وقالت الصحيفة ان الباحثين حصلوا...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram