لطفية الدليمي
اللغة ألاعيب ذهنية. ليس هذا اكتشافاً جديداً. إنه جوهر فلسفة فتغنشتاين الذي يوصفُ بأكبر عقل فلسفي في القرن العشرين. ثمة تداخل بين الهيكل اللغوي وطريقة رؤيتنا للعالم، وهذا ماكشفت عنه الفلسفة التحليلية التي وضعت حدوداً لما يمكننا معرفته في نطاق تعاملنا اللغوي. التحليل اللغوي هنا مضمار حفّزته ذائقة فلسفية قادها فلاسفة كبار من أمثال راسل وفتغنشتاين.
المدارس الفكرية التي تعاملت مع اللغة العربية اتخذت منحىً مخالفاً عندما أعلت شأن الدرس الجدلي الفقهي وعكسته في مضمار اللغة؛ فنشأت لدينا ألاعيب من نوع آخر غير ألاعيب فتغنشتاين، وصارت المرتسمات الحروفية هي ميدان اللعب الأكبر: كيف تُرسَمُ الهمزة مثلاً. باختصار: صارت ألاعيبنا اللغوية شكلانية ليس لها من أساس فلسفي سوى المماحكة التي تتقمص مقايسةً أرسطوية تقليدية، وتحفل المجادلات بين المدرستين النحويتين البصرية والكوفية بأمثلة عديدة في هذا الميدان.
لابأس من رؤية (متشددة) تجاه اللغة العربية تنبع من روح عاشقة للغة العربية وجمالياتها ومتيّمة بأصولياتها النحوية الصارمة كما أفعل في تعاملي معها؛ لكن لابدّ من ضرورة الموازنة بين حالتين: حالة الرخاوة المائعة التي يتعامل بها البعض مع قواعد اللغة العربية، وحالة الأصولية النحوية التي قد تدفع البعض إلى النفور من اللغة العربية واللجوء الى لغة أخرى للتعبير عن أفكاره، وإذا ماوضعنا في حسباننا حالة التدهور الفكري الراهن وتراجع مناسيب القراءة فسيكون لزاماً علينا الموازنة بين متطلبات الصرامة الواجبة مع بعض ليونة مستوجبة في التفاصيل النحوية الشكلية وبخاصة مايتعلّق برسم الهمزة التي يعاني منها الطلبة وكثيرون سواهم،ونحن نعلم أن ليس من قواعد متفق عليها في هذا لدى المدرستين النحويتين.
كتبتُ قبل حوالي سنتين أو ثلاث عن تيسير اللغة العربية على مستوى النحو والأدبيات المتداولة، وأظنّ أن قدراً من التيسير في صورة رسم الكلمات ينبغي أن يكون باعثاً لقدر من الوَسَطية في التعامل النحوي، ولعلّنا نعرف أنّ هذه الهمزة اللعوب هي مصدر خلافات كبيرة بين المدارس النحوية؛ إذ تتبدل بين قصر ووصل ومد، ومكتوبة على الألف أو الواو أو الألف المقصورة أو الياء، ثم جاء علينا البعض يكتب التنوين قبل حرف الألف الأخير، وهو يقعّدُ هذا الأمر بمقايسة صارمة، ولستُ أرى في هذه الأمور سوى مباراة في تنفير الشباب واليافعين من القراءة الجادة التي أصبحت ميادينها تضيق يوما بعد آخر.
لنكن واقعيين بما لايسيء إلى جماليات اللغة العربية، ولنعتمد معياراً إجرائياً: كم منّا من يعتمدُ كتابة همزة الوصل والقطع والمدّ وهو يكتب على حاسوبه حتى لو كان كاتباً ألمعيا؟ خلاصة القول:علينا في عصر الذكاء الاصطناعي أن نتجاوز اضطرارا عن الكثير من الشكليات الكتابية لصالح نوع خوارزمي من الكتابة المبسّطة، ولسنا مرغمين أن نكون أحفاداً مخلصين لمدرسة البصرة أو الكوفة وأساطينها (البصري أو الكسائي) إلا في حدود الفكر ومتفرّعاته، وليس سراً أن واحداً من أسباب شيوع اللغة الانكليزية وهيمنتها هو خلوها من التفاصيل الإعرابية المعقدة وركونها إلى البساطة الشكلية والعملية؛ إذ حتى حروف الانكليزية فيها نوع من التناظر الذي يريح البصر وهو مالانجد له نظيراً في العربية التي صارت مباراة بين الحروفيين.
أتحدث بهذا وأنا عاشقة متيمة للغة العربية وأفانينها البلاغية العظيمة؛ لكنّ هذا العشق لاينبغي أن يحرف وجهة نظرنا صوب مسائل فرعية ستعدُّ أقرب إلى نزهات بريئة بالمقارنة مع (البلاوي) النحوية والتعبيرية والبلاغية المكروهة حتى بمقاييس الشروط المعقلنة والمخففة التي أعملت فيها شروط التيسير والتحبيب والتقريب أقصى مابوسعها.