نجاح الجبيلي1. الحنـّاية كان يسوق أغنامه إلى القمامة المتجمعة في الساحة التي كانت من قبل بستاناً أخضر فأصبحت الآن خراباً تلهو به الريح. ثمة كلب أبيض مبقع بالسواد يسير خلف القطيع الذي شرعت رائحته العطنة تملأ الجو وتتسرب عبر نوافذ البيوت المطلة على الساحة. كانت الخراف والنعاج والماعز
تتشمم أكياس القمامة الملفوفة ثم تبدأ بتمزيقها ملتهمة محتوياتها، وكان الراعي يراقبها وهو يمسك بهاتفه النقال الذي يبعث أنغاماً شعبية فيما الكلب يقعي على كومة من التراب، يراقب القطيع ولسانه يرفرف كراية حمراء صغيرة. في القمامة لمح الراعي كرسياً أبيض كُسِرت إحدى سيقانه. جاء بحجرين كبيرين وعمل منهما ساقا رابعة. استلّ من جيب دشداشته البيضاء ناياً صحراوي اللون وراح ينفخ في ثقوبه فانبعثت نغمات شجية تموجت في الهواء النتن.. طارت إحدى النغمات عابرة نهيراً صغيراً ملوثاً.. مدوّمة عبر أشجار النخيل التي يبست رؤوسها وسكنتها غربان سود.. امتزجت مع نعيبها الحاد ثم ما لبثت أن طرقت سمع فتاة ترتدي ثوباً ملوناً بأزهار خضر وحمر كانت توري النار في تنور طيني.. بجانبه تركن المعجنة مع الصينية بين أوراق العشب المصفر.. جفلت الفتاة حين سمعت النغمة.. التفتت إلى مصدرها وسرّحت بصرها عبر النهير وهي تتجنب وهج الشمس بيديها، لمحت الصبي يجلس على كرسيّ أبيض وينفخ بناي ومن حوله قطيع الحيوانات. ابتسمت وأشاحت ببصرها.. انهمكت بتكوير العجين بيديها الموشومتين من المعجنة ووضعته على شكل كرات في الصينية بينما نغمات الناي الحزينة ما تزال ترن في سمعها.. ولما انتهت بقيت قطعة صغيرة من العجين فأخذتها ودورتها بكفيها المسورتين صانعة منها "حناية" ووضعتها في الصينية. فكرت أن تهديها إلى الراعي الصغير المنهمك في العزف وسط القمامة والعفن. بعد أن خف لهيب التنور بدأت تخبز تكويرات العجين بلصقها في التنور بسرعة مبتعدة عن لهبه.. وظلت على هذه الشاكلة حتى أتت "الحناية" .. خبزتها بعناية وكان صوت الاصطفاق يجفل الغربان المتحفزة لتطير ببطء وتحط على شجرة أخرى.. حين ألصقت الحناية بجدار التنور الملتهب سمعت صوت طلق ناري أفزع الطيور فطارت فزعة على شكل أسراب.. التفتت الفتاة نحو الراعي الصغير. كان قد اختفى هو وقطيعه وكلبه ولم يبق سوى كرسيّ أبيض مكسور الساق. وبينما كانت تراقب المشهد بحذر وتبحث بعينيها عن الصبي راحت الحناية تسيح شيئاً فشيئاً من جدار التنور ثم ما لبثت أن سقطت محترقة في اللهب.rn2. الإهداءrnإلى عادل مردان كان الشاعر يسير مع صديقه على ضفة النهر يحمل كيساً يضم نسخاً من مجموعته الشعرية الجديدة.. اعتاد حين يصدر له كتاب أن يكتب الإهداءات ضمن طقس خاص. بحثا عن مكان يجلسان فيه فاختارا دكة صخرية بالقرب من تمثال شاعر المدينة الشامخ.. ظلت القوارب تتهادى من بعيد على صفحة المياه الخضراء وطيور النوارس تتزاحم على التقاط ما يلقيه الشط من بقايا تصاحبها صرخاتها الحادة.. يعدّل الشاعر من نظاراته الزجاجية يشعل سيجارة ويناول أخرى إلى صديقه.. تدوّم حلقات الدخان ثم تذوب في الهواء الرطب ..يستل قلماً.. يكشف عن الصفحة الأولى ويدوّن الإهداء في الزاوية اليسرى من كل نسخة وفي كل مرة كان يحدق في النهر كي يتذكر صديقاً أو ناقدا أو شاعراً أو قاصاً أو حتى قارئاً عادياً ولأن صرخات النوارس وضجة سيارات الشارع المحاذي لضفة النهر تشوش ذاكرته كان يحث صديقه على مساعدته في التذكر. و حين يدوّن عبارات الإهداءات يحرص على أن تكون غير متشابهة، تتراوح من العبارة العادية إلى الشعرية ربما حسب مقام الشخص المهدى إليه.حين استلّ آخر نسخة قال لصديقه: من تبقى؟ تذكّر معي!فكرّ صديقه وقال: لا أحد. كتب في زاوية آخر نسخة من الكتاب: إلى طيور النوارس بطعم الشعر.. وألقى بها في مياه النهر فوشوشت الجمرة وعلا إنشاد حاملها.
قصتان قصيرتان
نشر في: 8 يونيو, 2010: 05:05 م