محمود عبد الوهاب البيت، في محلتنا الشعبية،الذي كان يسدّ ذلك الزقاق الضيّق،التـــرابي،والمتعرّج،في أربعينيات القرن الماضي،كان هو بيتَنا . جداره العريض المترامي حتى نهاية الزقاق،كان يمتدّ مثل ذراعين مبسوطتين،على طولهما،تحذّران مَنْ يدخــل الزقاق :
أنْ لا ممرّ من هنا. أنا في الطــابق العلوي من بيتنا،في الغرفة الوحيدة هناك،وراء الشباك المفتوح دائماً،مثل عين أتابع حركة المارة،تلك كانت هوايتي،أنا الصبيّ،طالب الدراسة المتوسطة . في ذلك الصباح،دخل كهل زقاقنا المسدود فجأة،حاملاً رغيف العائلة،وغبشات نوم الفجر،ما تزال تسترخي في عينيه،ما أن استيقظ من نعاسه اللذيذ وسط الزقاق،حتى اكتشف خيانة قدميه التي أضلّت طريقه،استدار الرجل عائداً،ظهره إلى شباك الغرفة التي أنا فيها،أراه يتقازم كما لو أن خطأ الطريق بدأ يأكل قامته . من عين غرفة الطابق العلوي،كنت أرى أصدقاء أخي الكبير يدخلون زقاقنا أفراداً،حذرين متوجّسين،هم أربعة لا أكثر،يأتون في يوم واحد كلّ منتصف أسبوع،في أوقات متفاوتة . الرابع منهم كان يأتي متأخراً،كنت ألمحه من شباك الغرفة،ينحني متظاهراً بأنه ينفض عن بنطاله تراب الزقاق،لكنه في انحناءته كان يتفحص مدخل الزقاق،ويتأكّد هل هناك مَنْ يلاحقه؟. الرجل الذي كان يحمل رغيف الصباح،أتخيله،يطوي دروب محلتنا . رغيف الصباح في يده،وداره تقترب منه بجدرانها وحجراتها،كما لو أنها تستقبله . أصدقاء أخي الأربعة هم في الغرفة المجاورة للسلّم الداخلي من بيتنا،أصواتهم تتداخل في خفوت حتى تغدو صوتاً واحداً مبحوحاً . في مساء ذلك اليوم،دخلتْ شابة زقاقنا مسرعة،وقفت قليلاً،كأنها بانتظار أحد،فجأة دخل شابٌ الزقاق،تريّث قليلاً،ثم اقترب. وقفا متجاورين،وفي حفيف الهمس كانا يتعاتبان، يحتدّ صوتها أحياناً،ينكسر صوته،يتداخل الصوتان . تركت الشابة زقاقنا،كان الشاب ينتظرها تبتعد،ومن الجانب المعاكس الذي خرجت منه،سلّ الشاب قامته وخرج . شعلة الشباب متوهجة فيهما،حتى إذا ما انطفأت لم يعد الشباب إلاّ ذكرى،وهكذا تصبح الرغبات، في شيخوخة العمر،ذكريات . في صباحات العطل المدرسية،كنّا نحن،صبيان المحلة، نتّخذ من زقاقنا المسدود ملعباً : القفز من فوق القصبة،المصارعة على تراب الزقاق،لعبة كرة القدم ،سباق ركض المسافات القصيرة، حتى إذا ما تسلّلت الشمس إلى زقاقنا من على حيطان البيوت المجاورة،وتسرّبت رائحة مطابخ تلك الدور إلى الزقاق، بدأنا نفترق .الأشباح الذين كانوا: رجل الرغيف، وأصدقاء أخي الحالمون، والعاشقان، وصبيان المحـلة، ما تزال تتحرك في رأسي، منذ تلك السنوات،كأنها تعيش هناك أبداً. الزمن يجري مثل نهر لا يقـف لحظة. كبرنا، وأصبحتُ مسافراً تستهويني دهشة العالم.على أنهار المدن الغريبة وقفتُ، واحتميت بظلال جسور العواصم، بعينيّ رأيت كيف يتحابّ العشاق، وفي قطارات الليل الأوربي، كان العالم يتجمّع من حولي، مثل عجينة تستحيل في كلّ لحظة، إلى هيئة أخرى. أتساءل الآن، كلّما رأيت رجلاً مسنّاً في مدخل زقاق مسدود: أيها الرجل الذابل، هل قفزت في صباك من فوق قصبة؟، هل سقطت على تراب زقاقك؟، هل؟.. وهل؟. كان الرجل يدير رأسه، وفكّاه لا تنقطعان عن المضغ، مثل زرافة تلوك طعامها: فلتكن شيخوختك، أيها الرجل، سعيدة مثلما كان صباك سعيداً، فالسعيد السعيد مَنْ يشيخ على نحو جيّد.
اوراق :عين الجدار
نشر في: 8 يونيو, 2010: 05:08 م