ستار كاووش
تُرى من هو الشخص المثقف؟ ومتى يمكن القول، أن هذا الإنسان أو ذاك، يتمتع بثقافة رفيعة؟ تمرُّ كلمة مثقف أمامنا كل يوم، مصحوبة بهالة من الوهج واللمعان،
وصارت سهلة الإطلاق، وكإنها تلك الدوائر التي تعلو سطح البحيرة ولا نستطيع الامساك بها، رغم اننا نرمي الكثير من الأحجار. لستُ متأكداً من عدد التعريفات التي تشير الى الثقافة أو حتى متيقن من صحتها، لكن ما يهمني هنا هو أن الثقافة في جانب كبير منها، إسلوب حياة وطريقة سهلة وحيوية للتعامل دون تعقيدات، هي الحضارة الصغيرة التي بداخل كل شخص، إنها السلوك الذي يجمل كل تصرفاتنا، وكيف نمد يد العون ونبدي رأياً نابعاً من حرص ومحبة، وليس لغرض الإستعراض الرخيص للمعلومات.
أحد معاني الثقافة قاموسياً هو الرمح المبري والمهذب والمستقيم. وبهذا يكون التهذيب أساس الثقافة. فلماذا نقفل شخصياتنا إذن على آراء متعصبة وربما هدامة وتسيء للآخر في كثير من الأحيان؟ الثقافة هي العدل وعدم التحيز بين الناس تحت أية ذريعة، هي أن لا ترفع صوتك في نقاش بسيط ثم تدعي بأنك قرأت الكثير من الكتب. دع الكتب والمهرجانات ومعارض الرسم لبعض الوقت، إترك العزاءات ومناسبات الأفراح والأتراح برهة، وإفتح أزرار قميصك وقلبك لتمتليء روحك بالهواء الطري الطيب. الثقافة لا تصنعها المصطلحات المبهمة والغامضة ولا الوظيفة المرموقة، ولا إمتلاك سيارة جيدة أو حتى بيتاً واسعاً، بل هي أن تملك روحاً واسعةً، ورؤية واضحة وقلباً كبيراً وعطوفاً.
قد تمنحك الكتب أجنحة، لكن لا تنس بأنك أنت الطائر، فالكتب هي المفتاح فقط، ولا يعني انك بامتلاك هذا المفتاح ستدخل الغرفة الصحيحة دائماً، بل ربما ستقفلها عليك بذات المفتاح. كذلك من يقولَ بأن المثقف هو الشخص الذي لا يخطيء أبداً وحياته مستقيمة كحد السيف، فهذا هو الإدعاء بعينه. فلا تعتد برأيك كثيراً وتَعَلَّمَ من أخطائك كما تتعلم من الآخرين، دون الحاجة للزعم بأنك تعرف الكثير في هذا الموضوع أو تلك المسألة. ومثلما يكون التعصب عدو الثقافة والمعرفة والتطور، فالعيش في الماضي هو أيضاً عدو لتطور ثقافتك. عليك إستلهام الماضي لجعل الامور أسهل واكثر جدوى، ولو شبهنا الحياة بشجرة كبيرة، فالتاريخ هو جذور هذه الشجرة، بينما الحاضر هو ثمارها التي علينا إلتقاطها، والمستقبل هو ما سنفعله بهذه الثمار الطيبة كي يكون لها معنى ولنا جدوى، حتى لو تغيرت أساليبنا، فالإختلاف والتغيير هما سر جمال هذه الحياة.
نحن نتعرفُ على هوية التفاحة والكرسي والتلفون والكثير من الاشياء الأخرى من خلال مظهرها الخارجي، لذا فالنظر في المرآة ضروري لرؤية إن كانت كلماتنا تشابه ما نحن عليه، وإلا سنكون بياعي كلام، فكيف لنا أن ننادي بجمال الكلمة وصياغة العبارات مثلاً ونحن لا نبالي بتهذيب مظهرنا؟ وهذا يشبه من يشير الى رومانسية وعذوبة اللوحات الفنية وهو لا يهتم لجمال بيته؟! لا تكتمل الثقافة سوى بممارسة الحياة والسير في دروبها بيسر وجمال، فهي التكوين النهائي للإنسان بكل ما يحمله من أفكار ورفعة وإيثار. حتى الإبداع شيء آخر ولا يرتبط دائماً بالثقافة، فهؤلاء ليسوا مثقفين من يتوهمون ان كتابة قصيدتين تجعلك مثقفاً كبيراً أو أن ترسم بضعة لوحات لتمتلك بعدها ناصية الثقافة، والأدهى من ذلك هو حين يظن العديد من الناس أن من يحمل شهادة دراسية يكون مثقفاً بالضرورة.
يعتقد الكثيرون أن الكتاب شيئاً أساسياً لتكوين المثقف، نعم الكتاب هو الأساس في بناء بيت الثقافة، لكن علينا أن ننتبه للبناء الذي سيأتي فوق هذا الأساس، والذي لا يكتمل سوى بتنفس الحياة ذاتها، في طريقة الأكل والشرب والنقاش والمشي وإلقاء التحية، في النظر بعيني محدثك بإهتمام. أن تكون مستمعاً جيداً لما يقوله أو يتحدث به من يشاركك ذات الطاولة، فأنتَ بذلك تمنحه جزءً من وقتك، وهو أثمن شيء يمكن أن تقدمه للآخرين، لأنك ببساطة لا تملك منه الكثير حتى لو عشت حياة طويلة. الثقافة هي أن تقول القليل وبالوقت المناسب، لا أن تتظاهر بأنك الذكي الوحيد في الجلسة. أن تكون أكثر إسترخاءً وحيوية، ولا تتوقف عند كل صغيرة وكبيرة، فلا وقتك ولا وقت الآخرين يتسع لكل شيء، ولا تحاول أن تكون قديساً وترضي الجميع، لأننا كبشر مجبولين على الإختلاف.
ولكي تمضي مع الحياة بسهولة ويسر، تخلص من أثقال صغيرة تنوء بحملها، أشياء لم تعد تنفع في يومنا هذا. فأمسك مقصاً وشذب الكثير من الأذيال العالقة بثيابك، كي تصبح مشحوذاً مثل ذلك الرمح الذي جاءت منه كلمة ثقافة.