حاوره: حيدر ناشي آل دبس
* في مقال لك نُشر سنة 2010 أشرتَ إلى الكتلة التاريخية التي وضع ملامحها النظرية المفكرُ الإيطالي "غرامشي". وقد حددتَ في ذلك المقال الشيوعيين والصدريين بوصفهم نواة هذه الكتلة. ثم تمخض عن ذلك تحالفُ "سائرون" الذي يراه البعض قد فشل في الحفاظ على المبادئ المرتجاة منه. ما رؤيتك بهذا الشأن.
- إسمح لي أن أقول أن سؤالك هذا في مغزاه وأسلوب صياغته، قد ينطوي على التباس نظري بين مفهومي "الكتلة التاريخية" و"الكتلة الانتخابية" (سائرون)، فضلاً عن رغبة السؤال بالحصول على إجابة مستعجلة محددة تقع في إطار الثنائية المبسطة الشائعة "صواب- خطأ"، دون محاولة لتفكيك الموقف جدلياً إلى عناصره التفاعلية غير النهائية.
سأكرر أولاً ما سبق أن كتبته مراراً، وتحديداً السؤال الذي طرحتُه في 17/ 1/ 2018 أي في يوم الإعلان عن تأسيس تحالف سائرون، بالقول: «هل هذا التحالف الجديد يمثل تلك الكتلة التاريخية أو نواتها؟ أم إنه ليس أكثر من كتلة انتخابية مؤقتة؟». وكتبتُ حينها أن أي إجابة قاطعة عن هذا السؤال في هذه اللحظة ستكون متسرعة، إذ تتفرع احتمالات جدلية متعددة من هذا الحدث الفريد في تاريخ التطور السياسي المعاصر في العراق، باجتماع تيار ديني مع تيار مدني في مشروع سياسي مشترك يتطلع للمشاركة في حكم البلاد. فالكتلة التاريخية يبقى تطورها واكتمالها، أو انحسارها وأفولها، أمراً احتمالياً محكوماً بعوامل تتعلق بنمط ومسارات الفعل التواصليCommunication action - بتعبير هابرماس- بين تلك الأطراف المتحالفة. وقد أظهرت الشهور التي أعقبت التأسيس أن القائمين على تحالف سائرون كانوا عاجزين عن تقديم الحس التاريخي التقاربي والضرورات السوسيوسياسية التي أنتجت هذا الحدث، على الأرقام الانتخابية التي كان يُفترض أنها لا تشكل إلا الجزء الفني والإجرائي من هذه الكتلة. ولذلك فمسألة الكتلة التاريخية التي دعوتُ لها تبقى أمراً قابلاً للمعالجة النظرية والواقعية المستفيضة دون ضرورة لزجه قسرياً وتبسيطياً في إطار انتخابي مرحلي محدود (تحالف سائرون أو غيره).
* إذن، هل ما تزال متمسكاً بأطروحتك السابقة عن الكتلة التاريخية؟
- أنا أنطلق في رؤيتي من كوني باحثاً يحاول مقاربة الظواهر وتحولاتها الجدلية، ولستُ سياسياً يلزم نفسه بمواقف يضطر للتمسك بها أو التخلي عنها. فالاشتغال المنتج في الحقل الأكاديمي الاجتماعي يتطلب جوهرياً مغادرة إطلاق "أحكام القيمة"، اي التوقف عن محاكمة الظواهر المجتمعية بمنطق "الأبيض والأسود"، أو "الملائكة والشياطين"، واستبدالها بتحليل الظواهر بوصفها معطيات ديناميكية متحولة تحدث في سياقات جدلية شديدة التعقيد، وليس ثمة "جوهرانية" سكونية تجعل ماهية الظاهرة ثابتة بشكل مطلق وكأنها قيمة افلاطونية ما ورائية. فلا تتوقف هنا مهمة الفكر العلمي على تفسير العالم بشكل امبريقي فحسب، بل الإسهام بتغييره أيضاً. وهذا يقودنا إلى الفرضية الغرامشوية المهمة حول "حرب المناورات" War of Maneuver، إذ ان مهمة الفكر العلمي العملية هنا تتحدد بالمناورة حيال تعقيدات الواقع السلبي بهدف "فتح ثغرة في الجدار" (مثلما يفعل عالم الأمراض في المختبر إذ يناور تجريبياً لاختراع الدواء المناسب للمرض مركزاً جهوده على استمرارية "المحاولة" المستندة إلى النظريات العلمية، دون التوقف عند مسألة النجاح والفشل).
إن جهودنا (أنا وأمثالي) تنصب على توظيف أدواتنا التحليلية في تفكيك الواقع ومحاولة التأثير فيه بما يقلل من المظالم الاجتماعية والبؤس البشري. وهذا يتطلب المناورة الغرامشوية لعقلنة التطرف وتفتيت الوعي الزائف وزيادة الوعي الثوري بالظلم، بما يقتضيه ذلك من عمل فكري وسياسي مع كل الفئات والتيارات المتاحة دون عدمية أو تعالي فوقي على "تخلف" تلك الجماعات أو الأفراد. فأي قيمة لأفكارنا اذا لم يتم زجها في اختبارات الواقع؟ فعندها، ومن خلال حرب المناورات وحرب المواقع War of Position تكتسب هذه الأفكار أحقيتها، بعد أن يجري تنقيحها ومواءمتها، في أن تصبح جزءاً واقعياً مشاركاً - بفاعليته المباشرة أو المؤجلة- في النضال الإنساني للتحرر.
وبهذا المعنى، تبقى أطروحة "الكتلة التاريخية" تنظيراً مرناً قابلاً للمراجعة والتطوير في ظروف العراق، ما دامت تشكل خياراً نظرياً يوفر إمكانية واقعية ملموسة لإعادة تشكيل البنى السياسية لإنجاز مهمات إنقاذية للبلاد، إذ تشكل نقطة التقاء لأفراد وجماعات اجتماعية مختلفة (سياسية وثقافية ودينية ومدنية ونقابية) لتكوين إرادة مجتمعية مشتركة تكون بديلاً تدريجياً للعملية السياسية الحالية التي ثبت أنها كتلة تاريخية منتهية الصلاحية انتهكت بنود العقد الاجتماعي مع المجتمع. فعندما تبدأ السلطة السياسية بفقدان قدرتها على الترويج لمشروعها الثقافي في أذهان الناس يصبح التغيير مرهوناً إلى حد كبير ببزوغ "هيمنة ثقافية مضادة" أو بديلة Counter Hegemony لدى الفئات الاجتماعية المتضررة. وتعدّ الكتلة التاريخة واحدة من الأطر التحالفية التي تتبلور فيها الهيمنة الثقافية البديلة. والعراق –بوصفه بيئة سياسية محتدمة- يبقى مرشحاً لانبثاق أنماط متنوعة من الكتل التاريخية بحسب سياقات الحدث وتحولات الهيمنة. وبهذا المعنى فإن الحراك التشريني الثوري 2019 مثّل –في ذروته- بزوغاً لكتلة تاريخية، وهو ما قد أوضحه لاحقاً في سياق هذا الحوار.
* عرّت إنتفاضة تشرين العملية السياسية من بعد سنة ٢٠٠٣ التي أثبتت فشلها، لكنها لم تطرح بديلاً موضوعياً لإستلام السلطة أو مشروعاً سياسياً واضح المعالم، ما تعقيبك؟
- كتبتُ خلال الأسابيع الأولى من اندلاع ثورة تشرين 2019 عن مسألة غياب القيادة واحتمالات الثورة المضادة، وقلتُ وقتها أن هذا الحِراك يمثل تجسيداً لكتلة تاريخية وطنياتية عابرة للطبقية والعقائدية والهويات الفرعية، شديدةَ العنفوان في دمائها وخطابها وغضبها وأهدافها الجذرية وسعة التمثيل التي امتلكتها. كما تميزت بقدرتها على التحشيد العددي الواسع عبر تنسيقياتٍ متفرقة في أرجاء البلاد تعمل على تحديد إحداثيات التظاهر والاعتصام مكانياً وزمانياً، والترويج الإعلامي في مواقع التواصل الاجتماعي، وتوفير الإمدادات الغذائية وتأمين الخدمات الطبية واللوجستية للمحتجين.
لكن في الوقت نفسه، بدت الثورة غير قادرة على إطلاق هيكليتها التنظيمية للتمهيد لإعلان عصرٍ سياسي جديد، إذ ظلت مشتتة بين تصنيفات متعددة، وغير قادرة (أو غير راغبة) بالتنسيق السياسي الممنهج فيما بينها. فكانت النتيجة عدم ظهور قطبية سياسية مرنة للحراك ذات مشروع محدد المعالم بمطالبه وخياراته وقراراته، أي لم يظهر بديل سياسي يواجه القطبية القابضة على السلطة. ولذلك فقد أسميتها بثورة تشرين الناقصة أو غير المكتملة، بوصفها (أي الثورة) سيكولوجيا كاملة ومكتملة، متشوقة للتغيير الحتمي في منظورها، لكنها ظلت منقوصة إذ لم تتحول بمرور الوقت إلى مسك الأرض عبر إطار تنظيمي – ولو مؤقت- يضمن لها قدرة المناورة واتخاذ القرار لكي تشكّل بديلاً سياسياً مجسماً على الأرض.
وهذه واحدة من المعضلات الأساسية التي تواجه الحركات الاحتجاجية المعاصرة عامة بفعل ثورة الاتصالات، بما صار يصطلح عليه بظاهرة أو عصر "الثورة بلا قيادات" Leaderless Revolution. فهذه الحركات – في الشرق الأوسط والعراق تحديداً- تتسم بنفورها من خيار الولاء لقيادات فردية أو لتأطير تنظيمي مُلزِم، واستبداله بخيار الانخراط في قيادة جماعية أفقية لا رؤوس محددة فيها إذ يصبح الجميع قادة ومؤثرين، وفي الوقت نفسه ينفرون من التراتبيات التقليدية التي تمنح البعض هيمنة على البعض الآخر. وكل ذلك بسبب التأثير النفسي لتكنولوجيا التواصل الاجتماعي، ومشاعر الاغتراب السياسي بسبب فشل المشاريع الأيديولوجية التقليدية قاطبة.
*هل يعني ذلك أن غياب القيادة في انتفاضة تشرين قد أفرغ هذا الحدث من محتواه أو قدرته الصادمة على إحداث التغيير؟
- لا، إذ يجب هنا التمييز بين أهداف الحراك التشريني النهائية -وهي ما تزال بعيدة عن التحقق بحكم التركة الثقيلة لسلطة زبائنية متعددة الأقطاب- وبين تأثيراته المتحققة فعلياً في نسيج الثقافة السياسية والوعي الاجتماعي لجمهور عراقي كبير سواء كان مسانداً لتشرين أو معارضاً لها أو متفرجاً عليها.
فللمرة الأولى منذ ستة عقود، ينبثق جيل سياسي شبابي معارض جديد، له تصوراته وأفكاره وأساليبه وخياراته التنظيمية القادمة، بمعزل عن العملية السياسية القائمة على التفتيت الإثنوطائفي، وبقطيعة تامة مع التنظيمات السياسية التاريخية التقليدية (الإسلامية أو القومية أو اليسارية). وهذا يعني أن المجتمع السياسي العراقي قد امتلك أبعاداً نوعية عميقة –ستظهر تأثيراتها الحاسمة لاحقاً- على يد فئة عنفوانية كبرى تشكل أكثر من ثلثي سكان البلاد.
وفي الوقت نفسه فإن المقاربة الموضوعية تقتضي القول أن بقاء الحراك التشريني 2019 بلا قيادات أو أطر تنظيمية وقتها، قد انطوى على إيجابيات أيضاً مثلما انطوى على سلبيات. فواحد من أهم أسباب قدرته على التعبئة والمناورة والمطاولة كان طابعه الأفقي غير المُمأسس أو غير المقيد، وهذا جعله محتفظاً بزخمه الثوري العابر للنسبيات المعرقلة، والمقاوم لاحتمالات الاجهاض أو الاختراق لشهور طويلة.
إلا أن إيجابية التعبئة الاحتجاجية دون قيادات، لا تغدو حقيقة مجدية وفاعلة ومنتجة إلا إذا استجاب النظام السياسي جزئياً لمطالب الحراك، وبدأ بتقديم تنازلات إجرائية في هيكليته بما يسمح بإعادة تقاسم السلطة تدريجياً مع الفواعل السياسيين الجدد. أما في حال انغلاق النظام السياسي واستعصائه على التفاعل مع الحراك الشعبي المستميت – كما حدث ويحدث اليوم في العراق- فإن بقاء هذا الحراك دون أطر تنسيقية قيادية لمدة طويلة، كان يعني إما خموده بفعل حالة الجمود السياسي العقيمة، أو تشظيه بمرور الوقت إلى جماعات متباينة جداً في رؤاها وخياراتها حد التصادم والتخوين المتبادل ربما، أو تحول عناصره الأكثر راديكالية إلى خيارات التطرف العدمي. وكل ذلك تحقق بنسبة معينة، إلا أن ثمة تطوراً رابعاً جديداً بات له ثقله السياسي مؤخراً.
فمنذ تشرين 2020 أخذنا نشهد تحركات مثابرة وصبورة لدى جماعات شبابية تشرينية عديدة، للمناداة أو العمل الفعلي لتشكيل تنظيمات سياسية (أحزاب أو ائتلافات وقوائم انتخابية). وهو تطور جاء متأخراً بعض الشيء، إلا أنه يعكس وجود وعي احتجاجي مستجد بأن الهيكلية والتنظيمية شرطان أساسيان لمواصلة الكفاح المجدي ضد مؤسسات السلطة المتضامنة. وهذا الموضوع بحد ذاته يتطلب مقاربة وتحليلاً منفصلين.
* أنت ممن استخدم مصطلح "ثورة" تشرين منذ بدايات الحدث في تشرين 2019. كيف تبرر استخدامك لهذا المصطلح في وقت يرى الكثيرون انها لم تكن إلا انتفاضة مرحلية لم تنقل البلاد إلى أوضاع مغايرة؟
- أنا استخدمت أولاً مصطلح "الانتفاضة" و"الحراك الثوري" في كتاباتي بعد أقل من أسبوع على اندلاع التظاهرات في 1/10/ 2019، وبعد حوالي شهر من ذلك استخدمت مصطلح "ثورة تشرين" في مقالة منشورة مطولة بعنوان "ثورة تشرين والصحة النفسية السياسية في العراق".
بتقديري أن ما حدث بعد 1 تشرين الأول وبعد 25 تشرين الأول 2019، كان ثورة، بسبب طابعها السيكولوجي الشامل لدى جمهور كبير بلغ مرحلة الاغتراب والقطيعة النفسية مع النظام السياسي، منادياً بإسقاطه كلياً دون شعارات مطلبية فرعية إلا في الحد الأدنى.
فمصطلح "الثورة" لا يُطلق فقط في حالات انتصار الحراك الشعبي وقدرته على إحداث التغيير الفوري للأنظمة السياسية والبنى الاجتماعية، بل إنه في جذره الأساسي يمثل أقصى لحظة (سياسية/ اجتماعية/ اقتصادية/ ثقافية) صراعية احتجاجية فارقة بين الماضي والمستقبل، مهما طال استعصاء الجديد على الولادة في مقابل استعصاء القديم على الزوال. ولحظة تشرين 2019 بهذا المعنى قد مثّلت أقصى حدث ثوري شعبي في تاريخ الدولة العراقية منذ قرن من الزمن، وأقصى نقطة صراعية فارقة بين الماضي والمستقبل.
* إتهمت بعض القوى السياسية إنتفاضة تشرين بارتباطها بدوائر سياسية خارجية. هل ترى صحة في هذه المزاعم حتى ولو في حدها الأدنى؟
- الحراك التشريني الثوري استدعى منذ بدايته اصطفافاً عدائياً غير مقدس وغير مسبوق لكل قوى الثورة المضادة ذات المصالح المتجذرة في أعماق النظام القديم. فشهدنا وما نزال نشهد نفخَ الروح الطائفية في الهيمنة الثقافية الآفلة للأسلمة السياسية، تحشيداً لهويات بدائية تمنح النظام "مناعة" ضد التغيير. كما نشهد محاولات النظام القديم المستمرة لاستعادة السيطرة -بأساليب الشيطنة الإعلامية والجوكرة التسقيطية والعنف الميليشياوي بالترويع والخطف والقتل بالكواتم- على المجال العام الذي أصبح ساحة غير محسومة بعد، للتنازع المادي/ الرمزي بين شرعية مستنزَفة وشرعية بازغة، أي بين مجتمع سياسي ماضوي فاسد بجماعاته الزبائنية المتخمة بالريع المنهوب، ومجتمع مدني شبابي مستقبلي محروم يفتش عن عقد اجتماعي جديد يضمن تأسيس دولة عاقلة تحمي مفهوم الوطن المرادف لمطلب العدالة الاجتماعية.
وتشير المعطيات اليومية التي أفرزتها الاحتجاجات التشرينية إلى أن السلطة بوصفها بنية "نفسية-سياسية" تعاني من أمرين متلازمين على نحو دوري. فهي تمارس حيناً التفكير "الاستخفافي" Underestimation حيال قوة الحراك الشعبي وتطوراته واتساعه ومدياته وتنوع أساليبه وابتكاراته. وهذا الاستخفاف قادها إلى تجاهل مطالب الحراك الجذرية، عبر الدخول في تهويمات تتحاشى كلياً الإقرار بالواقع الجديد، وفي ازدراء عُصابي واضح لإرادة ملايين الناس حد الاستخفاف.
وتمارس في أحيان أخرى التفكير "الاضطهادي" أو "الشكوكي" Paranoid نحو الاحتجاجات بوصفها "مؤامرة" خططت لها سفارات ودول واستخبارات، ونفذها "مندسون" يحاولون تحريض المحرومين والعاطلين والفاقدين على الانتفاض ضد "العدل" و"الفضيلة" و"الحكم الرشيد" الذي تمثله السلطة. وهذا قادها إلى التفكير "التهويلي"Overestimation أي تخوين المحتجين بالاستفادة من أي أحداث أو تطورات سياسية ذات طابع إشكالي يسمح بإعادة تأويلها على نحوٍ تدليسي يتسم بالشيطنة والتخوين. ويعدّ التفكير التهويلي هذا أبرز أدوات الثورة المضادة، إذ يسهل توظيفه في ضوء غياب ثقافة سياسية ناضجة في عموم المجتمع، وفي ضوء امتلاك السلطة لأدوات الترهيب والابتزاز بما يجعل من المعلومات الزائفة "حقائق" مقبولة يضطر الكثيرون لتبنيها بدافع الخوف من العقاب السلطوي أو الاجتماعي، أو بدافع عدم الرغبة بالخروج عن إجماع "القطيع" بما يوفره نفسياً من "حماية" و"مكانة".
فالضحية "واجبها" أن تبقى ضحية إلى ما لا نهاية، وإذا اعترضت على استباحتها وانسحاقها يجري تسقيطها فوراً بوصفها (أي الضحية) "عميلاً" جرى تجنيده ضمن "مؤامرة" عالمية شريرة وغامضة تستهدف تقويض المنظومة السياسية الممثلة لقوى "الخير" و"العفة" و"الوطنية"! فالضحية تبقى بريئة و"منتمية" لنا ما دامت لم تعترض أو تحتج، لكنها تصبح "جوكراً" آثماً حالما تشرع أو تفكر في مغادرة بؤسها.
* قلّت حظوظ اليسار العراقي ممثلاً بالحزب الشيوعي العراقي في الشارع بعد التحالف مع التيار الصدري، رغم إنه ساند إلانتفاضة وتخلى عن حضوره البرلماني إحتجاجاً على القمع الذي تعرضت له تشرين، كيف ترى التوجه إليه مجتمعياً في قادم الأيام؟
أعلن الحزب الشيوعي العراقي مؤخراً مقاطعته الرسمية للانتخابات النيابية المبكرة المقرر إجراءها في تشرين الأول 2021، ببيان رسمي استناداً إلى استفتاء حزبي داخلي شمل أعضاء الحزب ومنظماته حسبما جاء في البيان. هذا القرار حسب رؤيتي يعكس توجهات قواعد الحزب والفئات الاجتماعية المرتبطة بها، أكثر مما يعكس توجهات قيادته الموزعة بين خياري المشاركة والمقاطعة.
لقد شارك الحزب الشيوعي في كافة الدورات الانتخابية التي عقدت ما بين 2005 و 2018، ولذلك فإن قراره اليوم بالمقاطعة يوحي بأن ثمة ديناميكية داخلية فيه قد فرضت منهجاً جديداً – بعد الحراك التشريني الثوري- يرى أن الاستثمار السياسي لم يعد ممكناً في العملية الانتخابية التقليدية المصنوعة في مختبرات العملية السياسية المتهالكة، بل يجدر –حسب هذا المنهج- أن يتوجه هذا الاستثمار نحو قوى التغيير المجتمعية الصاعدة عبر إحياء خيار "المعارضة"، وهو الخيار الذي أمضى الحزب الشيوعي جلّ تاريخه في التعاطي معه.
وإذا كان البعض يقلل من أهمية هذه المقاطعة (أو المشاركة) بسبب الحجم الانتخابي المحدود أو الضئيل للحزب الشيوعي في ضوء نتائج كل الدورات الانتخابية السابقة، فإن السياق الثقافي والأخلاقي والاجتماعي للحزب الشيوعي يمنحه هامشاً سياسياً نوعياً يفوق الأصوات التي يحصدها انتخابياً. ولذلك فإن قرار المقاطعة الانتخابية هذا يكتسب أهميته من التأثير السياسي النوعي لا الكمي للشيوعيين. لكنه قرار لن تكون له قيمة بناءة دونما تأسيس ائتلاف سياسي يضم شريحة واسعة من قوى التغيير بما فيها الحزب الشيوعي، وبعض تنظيمات تشرين الشبابية، وحركات ديمقراطية إصلاحية، وتجمعاتٍ من المجتمع المدني، وتنظيمات نقابية، وممثلين عن الأقليات، ونخب مثقفة وأكاديمية.
هذا الائتلاف قد يؤطر المقاطعة تنظيمياً، ويخفف من التوجهات العدمية المتطرفة السائدة بين بعض الفئات الشبابية، ويحيلها إلى فعل احتجاجي مدروس يتوخى الانتقال السلمي التدريجي من دولة الفساد والطائفية والفقر المُمأسس إلى أعتاب الدولة الوطنية المحتكمة إلى مبادئ المواطنة والحريات والعدالة الاجتماعية. وعندها ستكون المقاطعة نمطاً ديمقراطياً متقدماً من المشاركة السياسية التي لا تكتفي بالإحجام الفني عن الذهاب إلى الصناديق الانتخابية، بل تذهب بعيداً إلى استثمار طاقة الإحجام بتحويلها إلى سلوك إقدامي لتأسيس كتلة معارضة تمارس استثمارها السياسي في الغضب المجتمعي المتصاعد. وهو استثمار قد يحصد ثماره في انتخابات أخرى لاحقة، أو في أي سياق سياسي ضاغط لإحداث التغيير.
السؤال الأساسي المطروح اليوم بعد قرار الحزب الشيوعي بالمقاطعة هو: هل يستطيع هذا الحزب أن يجدد تنظيراته وبنيته ليقيم صلة فكرية ووظيفية حقيقية مع جيل سياسي شبابي ثوري يظهر للمرة الأولى منذ ستة عقود خارج التنميطات العقائدية الكلاسيكية: ماركسي/ قومي/ إسلامي؟
قرار المقاطعة هذا -وما قد يتمخض عنه من خيار المعارضة- يمكن أن يشكّل لحظة تجديد استثنائية في هيكلية الحزب الشيوعي ورؤاه النظرية ومواقفه العملية، مثلما يمكن أن يكون لحظة مؤقتة لتحقيق توازنات معينة بين قواعده وقيادته، سرعان ما يجري احتواءها بأدوات البيروقراطية الحزبية العتيدة.
* طُرحت في النصف الثاني من القرن العشرين العديد من الفرضيات التي تُشخص طبيعة الفرد العراقي من الناحية السيكولوجية، يا ترى ما هي فرضية الدكتور فارس كمال نظمي في تصوره لطبيعة الفرد العراقي النفسية؟
لن أخوض في الطبيعة العامة لشخصية الفرد العراقي، بل أودُ الحديث – باختزال شديد- عن ثيمة محددة تتصل بالسلوك السياسي الاحتجاجي تحديداً لهذا الفرد. فالاحتجاج السياسي هو التعبير السيكولوجي الجمعي التغييري المباشر الناتج عن المحصلة الجدلية غير المباشرة لتفاعل عوامل الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة القادمة من الماضي.
وهنا يجدر التمييز أولاً بين "سلوك الاحتجاج" و"نزعة الاحتجاج"، إذ يعني الأول قيام الفرد أو الجماعة فعلياً بإجراءات اعتراضية ملموسة للتعبير عن رفض الموقف؛ فيما تعني الثانية امتلاك الفرد أو الجماعة لتوجهات احتجاجية كامنة قد تترجم إلى سلوكيات أو قد لا تترجم فتبقى نزعة داخلية فحسب.
تفيد الملاحظات المتراكمة تأريخياً عن شخصية الفرد العراقي بتأصل نزعة الاحتجاج لديه حيال الأوضاع العامة، إذ تراه في أحاديثه الخاصة يتداول النكتة السياسية ويكثر من التذمر والنقد حيال السلطة والأداء الحكومي في كل العهود والظروف. أما سلوكه الاحتجاجي الجمعي الفعلي فظلّ على الدوام محدوداً لا يتناسب مع نزعة الاحتجاج القوية الكامنة تلك.
أفترضُ وجود ثلاث نزعات متفاعلة جدلياً، نشأت تدريجياً في شخصية الفرد العراقي بتأثير التطورات السياسية منذ 1921 (أي نشوء الدولة المدنية وانتشار الثقافة الحداثوية وتراكم المظالم الاجتماعية)، وهذه النزعات الثلاث تمارس بدورها تفاعلاً تأثيرياً ومتأثراً بالشروط الموقفية المحيطة بالفرد، وتشكل أنموذجاً يساعدنا في فهم احتمالات السلوك السياسي للفرد العراقي الآن ومستقبلاً، هي:
- نزعة علمانية اجتماعية (نزعة إدراكية): أي ميل الفرد العراقي نحو إدراك الآخر (الشريك في المجتمع والدولة) على أساس هويته الوطنية المدنية لا على أساس هويته الدينية أو الطائفية ما قبل المدنية. فالعراقيون –إجمالاً- يميلون إلى تنميط بعضهم وفق فكرة "العراقية" أكثر من فكرة "الإسلامية"، ويميلون إلى الاحتكام إلى سلطة القانون المدني أكثر من سلطة الشريعة الدينية، ويميلون إلى تغليب المنافع الدنيوية المشتركة على مضار الاختلافات الدينية أو المذهبية.
- نزعة يساروية اجتماعية (نزعة قيمية): هي نزعة "حقّانية" كامنة ومتجذرة بعمق في المنظومة القيمية للشخصية العراقية بسبب تراثها الثقافي العدالوي – دينياً وطبقياً- من جهة، وبسبب عناصر الحرمان والظلم والإذلال التي تشبعتْ بها خلال عقود سياسية طويلة، بما جعلها إلى حد كبير نزعةً عابرة للدين والمذهب والعرق والطبقة والمستوى التعليمي.
- نزعة مازوخية اجتماعية (نزعة انفعالية): أي ميل نمطي لدى قطاعات واسعة من العراقيين لاستعذاب الألم أو الفشل عبر مشاعر الذنب الجمعي (إحنا العراقيين موخوش أوادم، ..حيل بينا)، التي تتضمن إزاحة لاشعورية لطاقة الاستياء وتوجيهها عدوانياً إلى هدف ذاتي بديل بدلاً من توجيهها لمقاومة المسبب الواقعي للمظالم (أي عوامل السياسة والاقتصاد والاجتماع).
وقد نشأت النزعتان العلمانية واليساروية بتأثير رد الفعل النفسي- الاجتماعي ضد الخراب الذي أشاعه الحكم العثماني الإسلاموي، ونشوء الطبقة الوسطى لاحقاً بفعل انتقال الاقتصاد من الطابع الاقطاعي إلى الطابع المدني، ودخول التكنولوجيا والتعليم بشكل ُمُمأسس. أما النزعة المازوخية ذات الجذر الانثربولوجي الأعمق، فقد ترسخت بفعل عوامل الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي والأزمات العميقة المستعصية المتتابعة التي رافقت نشوء الدولة.
واستناداً إلى هذه النزعات الثلاثة المتفاعلة، أفترضُ أن الاحتجاج الجمعي العراقي قد مر بدوره بثلاثة مراحل متباينة طبقاً إلى درجة شعور الناس بفاعليتهم السياسية المرتبط بمدى تنامي وعيهم التغييري للمجتمع:
- منذ تأسيس الدولة العراقية 1921 حتى انقلاب 8 شباط 1963: اتسمت هذه المرحلة ببروز الاحتجاجات الشعبية نزوعياً وفعلياً، على مستوى التظاهرات والانتفاضات والإضرابات والصحافة المعارضة وتأسيس الأحزاب الراديكالية والليبرالية الفاعلة جماهيرياً. وكل ذلك بسبب قوة النزعتين العلمانية واليساروية، وضعف النزعة المازوخية سياسياً رغم قوتها ثقافياً. فقد شهدت هذه الحقبة تأسيس نظام سياسي "علماني" نوعاً ما، جمعَ بين القيم المدنية التي أتى بها الاحتلال البريطاني وبين القيم الأبوية وشبه الإقطاعية الموروثة عن الاحتلال العثماني، رافقته نهضة ثقافية وسياسية عقلانية قادتها الطبقة الوسطى التي انتعشت بشكل ملحوظ آنذاك.
- منذ 8 شباط 1963 حتى صيف 2010 (انتفاضة الكهرباء): اتسمت هذه المرحلة بنزعة احتجاجية كامنة قوية في مقابل سلوك احتجاجي ضعيف أو معدوم تقريباً. فقد ظلت النزعة العلمانية مقاومة، والنزعة اليساروية كامنة، فيما جرى تقوية وترسيخ النزعة المازوخية. وقد احترقت هذه الحقبة بنار الفاشية والحروب واستبداد الحزب الواحد، ولاحقاً بنار الاحتلال الأمريكي والتطرف الديني-السياسي وما أنتجاه من تقويض للطبقة الوسطى المتنورة، ومن إحباط ويأس وعجز وعدمية ولامعيارية في عموم المجتمع.
- منذ انتفاضة الكهرباء 2010 حتى اليوم مروراً بكل الموجات الاحتجاجية المتعاقبة وآخرها ثورة تشرين 2019: اتسمت هذه المرحلة بانتعاشٍ فارق لنزعة الاحتجاج يرافقها سلوك احتجاجي جماعي اتخذ صوراً تنظيمية متنوعة. فهنا عاودت النزعتان العلمانية واليساروية قدرتهما على البزوغ والتأثير، فيما أخذت النزعة المازوخية بالتراجع. فقد بدأت بالتبلور تقاليدٌ جديدة للاعتراضات الشعبية للتعبير عن السخط والاستياء الشديدين من حالة الفقر والبطالة وانهيار الخدمات ونهب المال العام التي يعاني منها المحرومون، تطورت بمرور الزمن إلى مطالبات مستميتة بالتغيير السياسي الشامل.
هذه المرحلة الاحتجاجية الثالثة ما تزال مستمرة حتى اليوم، بتأثير النزعتين العلمانية واليساروية الكامنتين والفاعلتين معاً، وبتأثير تآكل الشرعية الإسلاموية وبزوغ شرعية مجتمعية جديدة، إذ يعيش العراق اليوم انزياحاً ملموساً في الوعي السياسي باتجاه خيارات عابرة للطائفية السياسية السائدة منذ 2003 -خصوصاً في مدن الوسط والجنوب- ضد الهيمنة الثقافية للإثنيات السياسية، للمطالبة بإصلاح سياسي شامل لمكافحة الفساد والحرمان وتأسيس دولة مواطنة تعمل على بناء هوية وطنية جامعة. وها نحن نرى اليوم هذا التقابل الجدلي في العراق بين هيمنة ثقافية تنحسر (الأسلمة) وأخرى معاكسة تبزغ (الوطنياتية) إذ نشهد تنامي فاعلية الفرد العراقي في الفضاء العمومي وتطور ثقافته السياسية وتنامي نزعة التحدي والمساءلة لديه حيال السلطة، على نحوٍ يوضح الديناميات المستجدة في تحولات الهيمنة الثقافية داخل المجتمع العراقي. وجاءت ثورة تشرين 2019 لتمثل ذروة هذا الصراع غير المحسوم بعد بين الهيمنة والهيمنة المضادة، إذ أن الشعارين الأساسيين فيها: نريد وطن"، و"نازل أخذ حقي"، كشفا عن تفاعل واضح للنزعة الوطنياتية مع النزعة الطبقية على نحو ديناميكي جعل من المظلومية الطبقية وفقدان المساواة رديفاً جدلياً لتغييب مفهوم الوطن المانح للهوية والكبرياء.
* في العراق العديد من المنظمات والجمعيات التي تُعنى بعلم النفس، هل تعتقد إن العراقيين إستطاعوا تأسيس مدرسة نفسية قائمة بذاتها لها خصوصيتها التي تنفرد بها؟ أم ما زلنا نستعير الأفكار من المدارس الغربية؟
- الحديث عن احتمالية تأسيس مدرسة فكرية في أحد الاختصاصات العلمية، يعني التفتيش أولاً عن مدى توافر بنية أكاديمية تحتية رصينة لإنتاج المعرفة ضمن ذلك الاختصاص. وأقصد بالبنية التحتية هنا عدة شروط متفاعلة ومكملة لبعضها جدلياً: أولها توافر العامل البشري النوعي بقدرته على التفكير الإبداعي المنفتح الجريء بعيداً عن التلقين والانغلاق المعتقدي والخوف من حرية التفكير؛ وثانيها توافر البنى الأكاديمية الأساسية كالمناهج التعليمية التحفيزية، وأساليب التدريس المتطورة، والمراكز البحثية النوعية، والمكتبات الورقية والرقمية المفتوحة على أحدث الإصدارات، وإصدار المجلات الدورية المنتجة للمعرفة؛ وثالثها الفضاءات المادية المتطورة للتعليم أي الأبنية والمختبرات والقاعات المجهزة بكل الخدمات الضرورية لخلق بيئة مناسبة للاجتهاد الفكري وقدح الفرضيات وتطوير النظريات المبتكرة. يضاف إلى ذلك ضرورة وجود بيئة/ حاضنة سياسية واجتماعية وثقافية مستقرة نسبياً تسمح لكل هذه العناصر الثلاثة بممارسة الحرية الأكاديمية المدعومة لوجستياً وقانونياً، بعيداً عن الإرهاب الفكري والتسلط العقائدي والفساد الإداري الخانق، مع وجود ضامن اقتصادي يموّل الأبحاث ضمن خطط بعيدة المدى تدمج المخرجات العلمية بكافة بنى الدولة ومؤسساتها.
هذه الشروط لا تتوافر –بل هي معدومة تقريباً- بحدها الأدنى في عموم البيئة الأكاديمية العراقية. فقد مارست سلطة البعث السابقة احتواءاً ايديولوجياً مبرمجاً لأغلب مؤسسات الدولة والمجتمع، وعلى رأسها الجامعة. فالإدارة الحزبية الشمولية للجامعة، على مدى أكثر من ثلاثة عقود، تركت بصمة نفسية عميقة في شخصية الأكاديمي يصعب التخلص منها في المدى القريب، يمكن تلخيصها بطغيان الهوية الإدارية الوظيفية لديه على الهوية الثقافية الفكرية، وتراجعَ دوره التنويري الإصلاحي للمجتمع لصالح تنامي دوره البيروقراطي التلقيني المحدد بجدران الصف الدراسي. وأدى كل ذلك حتماً إلى اكتسابه مفهوماً مشوهاً عن ذاته وعن دوره الاجتماعي، فأصيب بما يُطلق عليه بـ"العجز المتعلَّم" Learned Helplessness نتيجة سنوات مريرة من التهميش والتخويف.
وبعد 2003م، انتقلت السلطة في الجامعة من الإدارة الحزبية الحديدية وأجهزتها الأمنية، إلى نفوذ فوضوي تديره الأحزاب الدينية القابضة على الحكم، وروابطها الطلابية ومليشياتها التي أخترقت أجهزة الدولة كافة. فأصبح الأكاديمي العراقي موزعاً بين انكفائين: "العجز المُتَعلَّم" الموروث نفسياً من الحقبة السابقة والذي لم يجر تفتيته بسبب استمرار عوامل التغريب والتهميش واللامعيارية في عموم المجتمع، و"الرعب المُتَعلَّم" الذي اكتسبه للتو نتيجة عمليات الاغتيال والخطف والإساءة الجسدية والاعتبارية التي ما برح يتعرض لها الأكاديميون لأسباب فكرية أو طائفية صريحة.
وفي ميدان علم النفس تحديداً، تتضح هذه الأزمة بشكل مضاعف بسبب الطابع الاجتماعي النوعي العميق لهذا الاختصاص وصلته المباشرة بحركة المجتمع. فمؤسسات التعليم ومراكز الأبحاث العراقية في علم النفس تعاني اليوم من كل أمراض الفساد الأكاديمي، إذ تحولت إلى ما يشبه "الثكنات" التي تحشر الطلبة والأكاديميين معاً في غرف/ سجون تعلّم التلقين المطلق، وابتلاع المعرفة دون هضم أو تمثّل، واستظهار المعلومات ميكانيكياً دون حد أدنى من التفكير الناقد أو الرغبة باستنطاق المفاهيم وربطها بالواقع والزمن الاجتماعيين.
ومع ذلك نجد أن بعض الجمعيات والمنظمات العراقية غير الحكومية المختصة بعلم النفس، تمارس نشاطاً نوعياً (مؤتمرات وورش وكتب) في إطار تأصيل بعض المفاهيم النفسية ومحاولة توطينها عراقياً. إلا أنها تبقى نشاطات محدودة ومجتزأة ومتفرقة لا ترقى إلى محاولة تأسيس مدارس نفسية ذات أرضية منهجية ونظرية راسخة. فهذه النشاطات تمثل النزعة الأخلاقية المستنيرة لأصحابها فقط، في محاولتهم لتحريك الراكد واستنطاق الخرس الأكاديمي الطاغي، لكنها تبقى تفتقر إلى الإمكانيات البشرية والمالية واللوجستية الضرورية لتتحول إلى مراكز لإنتاج المفاهيم واستحداث النظريات.
وفي مقابل هذا الغياب لمدرسة نفسية عراقية، يصعب عليّ الاتفاق أيضاً مع التعبير القائل بأننا "نستعير" الأفكار من المدارس الغربية، إذ أن مؤسساتنا الأكاديمية النفسية لم تفلح –باستثناء حالات فردية متفرقة- في تحقيق حتى هذه الاستعارة التي تعني التوظيف المنهجي المنظم للتنظيرات الغربية في البيئة العراقية. فأقصى ما حققته هو ابتلاع واستهلاك واجترار تلك المعارف التنظيرية دون أي خطة لهضمها بصيغة فكرية وعملية بالحد الأدنى، تتلائم مع خصوصيات الوضع العراقي. هذا ما يمكن تسميته بالشفط الأكاديمي الكمي، الذي مسخ جوهر علم النفس في العراق وأحاله - في أحسن الأحوال- إلى حبر على ورق.
* "فرويد" رأى في الجنس محوراً أساسياً في طبيعة الجنس البشري، و"بافلوف" كان إقترانه الشرطي محور نظريته، و"أدلر" اختار عقدة النقص ليحدد من خلالها نزعات النفس البشرية، و"يونغ" افترض مخزوناً جمعياً لنزعات الإنسان، و"ماسلو" حدد هرماً متدرجاً صعوداً لاحتياجاتنا في تصنيفه لطبيعتنا. برأيك ماهي الفرضية المعبّرة عنّا من ضمن المذكور أنفاً؟
- لا يتسع المجال هنا لمناقشة كل هذه المدارس والمباحث النفسية، ولكنني سأكرر ما سبق لي التعبير عنه في مناسبات سابقة، بشأن رؤيتي حول "أفضل" المقاربات الفكرية الممكنة للواقع البشري.
لا أجد أي تناقض أو التباس إذا ما أقمتُ جسوراً بين الماركسية والفرويدية والليبرالية. لعل التفكير الأكاديمي المستمر قد أرشدني إلى هذه التوليفة التي أراها متسقةً على مستوى البنية والوظيفة معاً. فرويد نفسه قال في أواخر حياته: لو كنتُ قد قرأتُ الماركسية في وقت مبكر من حياتي لغيرتُ العديد من أفكاري؛ وماركس وصف نفسه: "لستُ ماركسياً"، في إشارة إلى ليبراليته الفكرية الرافضة للقولبة؛ وعتاة الليبرالية في الغرب لا يملكون اليوم إلا الانحناء أمام تفسيرات ماركس وفرويد في أوقات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحادة.
وأضيف مكوناً رابعاً في أسلوب تفكيري إلى جانب المكونات الفلسفية الثلاثة السابقة الذكر، أسميه "المعرفة النفسية العامة بالطبيعة البشرية". هناك حقائق نفسية جرت البرهنة على كونها جزءً من الطبيعة البشرية العابرة للحضارات والمجتمعات، عبر أكثر من قرن من التراكم العلمي المنهجي، وهذه الحقائق لا يستطيع أن ينكرها اليوم لا الرأسمالي الجشع ولا رجل الدين التسلطي. هناك نزوع بشري متأصل نحو اللذة والجمال والأمان والإنصاف والمعرفة والحرية، وهذا النزوع سيتشوه في العقل الباطن الفردي والجمعي إذا ما جرى كبته بواسطة المؤسسة الدينية المتشددة ليتحول إلى تطرف وتكفير وكراهية على مستوى السلوك؛ وسيتحول هذا النزوع إلى اغتراب ويأس وذل وعنف ولا عقلانية إذا ما جرى قمعه بأدوات الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي.
جوهر الوجود البشري يتمثل في فهم العلاقة بين العقلين الباطن والظاهر للإنسان عبر جدلية العلاقة بين الحرية والعدالة. ولذلك أرى أن أسوأ ما أنتجته البشرية عبر تأريخها الطويل هو الاستغلال الاقتصادي والاستلاب الديني. فالأول يُفقر باسم "الضرورات" الدنيوية والثاني يسوّغ الآلام باسم "الضرورات" الغيبية. وليس أمامنا إلا أن نسعى لتفتيت هذين الوهمين بالركون المثابر إلى الأدلة المعرفية العلمية المتراكمة في ثباتها ويقينيتها، وعبر الإيمان الصبور بأن الضرورات الموضوعية للتطور الاجتماعي لا بد أن تجترح على الدوام وجوداً أسمى للوضع البشري.