TOP

جريدة المدى > عام > ما الشعر إلا زلَّة اللّسان

ما الشعر إلا زلَّة اللّسان

نشر في: 23 أكتوبر, 2021: 11:55 م

ناجح المعموري

وفرت لي دار المتوسط ، الأخ كريم ما ساعدني على قراءة فوزي كريم ناقداً وشاعراً . كنت سعيداً وفرحاً ، على الرغم من إنني اقتنيت كتاب فوزي كريم المهم " القلب المفكر ،

القصيدة تغني ، ولكنها تفكر أيضاً " واسعدتني جداً دراسات فوزي كريم وامتداداته الذكية والعميقة في مصادر الثقافة والفكر والتجارب الشعرية . وأدهشتني آراء فوزي الكثيرة والمتنوعة ، وجدت في نفسي شغفاً للكتابة عن الكتاب والتعريف به ، ونشرت مقالتين في ثقافية المدى ، لكني وجدت بالذي حققه فوزي بـ " القلب المفكر " اعتمادات مركزية على مصادر غربية كثيرة ، ويكتفي بالإشارة لها بدون ضبط كامل للمصادر . وتأكد لي هذا الامر بعدما قرأت عدداً من كتب فوزي كريم والعناية بذكر المصدر بالهامش بعيداً عن تكرار الصفحات وتحقيق الانسجام ، وتلك طريقة تلتقط المصدر وتذوبه احياناً ، وتستعين به ثانية مكتفية بإحالة واحدة فقط وتجاوزه في أحيان أخرى ، اذا اضطر النشر في مجلة اكاديمية مثل مجلة جامعة الكوفة .

لفت انتباهي الشاعر فوزي بكتابته عن ملحمة جلجامش ضمن دراسات كتابه " القلب المفكر "

" ظلت تجربة فوزي الشعرية مشدودة لتجاربه الاولى وأهمها " حيث تبدأ الاشياء / دار الكلمة 1969 / أرفع يدي احتجاجا العودة 1972 / جنون من حجر / وزارة الثقافة / بغداد 1979 / الاحساس بالمجهول ، بدء الانشغال بالحياة والمصير والشاعر أكثر المبدعين تورطاً بالشيخوخة ومتاعبها وتفلت منه تعبيرات لحظية . لأن الشعر أكثر الأنواع الأدبية انعكاساً للمشاعر الآدمية . في التعامل مع الحياة ، والإعلان عن الترقبات التي تظل ملازمة له وكأنه يعيشها لحظة بلحظة . وينتهز كل فرصة مواتية التي تداهمه ليقول سريعاً تخيلاته ، لأن الشعر هو الذي يتنفس التخيلات ويسجلها .

بالإمكان التكتم على حضورات عديدة ، والتستر عليها إلا ترقب المجهول والتقاط الهواجس الطاغية ، وكأنه يفكر بعقل فيلسوف على الرغم من أن الشعراء لا يهتمون بالفلسفة إلا ما ندر . وأعتقد بأن الشاعر فوزي كريم أحد الشعراء مع ادونيس والشاعر خليل حاوي أكثر اهتماماً بالشعر وتجاوره مع الفلسفة . وتعاطى ذلك أكثر من مرة ، ولعل دراسته المهمة عن الفيلسوف والشاعر " لوكر بتيوس " وقصيدته المهمة " في طبيعة الأشياء " هي الرائدة في هذا المجال وقد عرفت باهتمام فوزي كريم كذلك دراسته عن نيتشه وكرس فوزي القيم الابيقورية في تجربة لوكر بتيوس والذي اعتبر الصداقة أهم منجزات العقل ، ويذهب اليها الانسان من اجل الخلاص . لكنه لم يحدد نوع الخلاص الذي صار حلماً .

اعتقد بأن توصل فوزي لمعرفة العدم والاغتراب ، هي من ممنوحات لوكر بتيوس الفلسفية ، والذي أكد على أن الذرة أبدية ، وخالية من خصائص الادراك ، ليس لها لون ولا حرارة فيها ، لا صوت ، ولا رطوبة ، أو رائحة ، وليس لها مشاعر ، ولا عاطفة ، لانها لو كانت تمتلك تلك المشاعر والخصائص ــ اذن ــ لكانت عرضة ــ للموت والفناء / فوزي كريم / القلب المفكر ، القصيدة تغني ولكنها تفكر ايضا / دار المتوسط / ص94//

وأكدت الفلسفة بوضوح على المصير الذي يواجهه الشاعر ويخشى ترقب المجهول ، لأنه ــ الشاعر ــــ يحيا ويدرك بأنه يموت ، وهو يمتع العين والقلب والفكر ويحيا الحياة بكل صورها ، ولا يفعل كل ذلك ، الا وهو ينسج بيده خيوط فنائه وموته . ذلك لان كل لحظة يمر بها هي لحظة نحو الفناء . والانسان يعرف انه لا محالة " ميت " لكنه لا يحاول ابدأ ام يواجه هذه الحقيقة . كما قالت د. امل مبروك .

معروف بأن فوزي كريم الصامت ، والمتوجس ، والقلق ، وهادئ الكلام ، وكأنه يخاف الصوت وما يسمع من كلام هذا ما تشكل لدّى وانا التقية في الرياض ضمن مهرجان الجنادرية ليس هذا فقط ، بل عزلته وخشيته من الاخر وهذا ما تبدّى لي في مهرجان المدى في اربيل عام 19/ 2007 وعرفت من اصدقاء بأن الشاعر تجوهرت لديه تلك الخصائص وبعدما قرأت ديوانه " ما الشعر الا زلة اللسان " دار المتوسط 2018//

اول نصوصه في هذا الديوان هي " المعنى الكامن "

اوهمت الذات

بالمعنى المستتر الكامن

لكنك حين نظرت الى المرآة

ابصرت الوجه بغير سمات

كشف الشاعر بوضوح وصراحة عن غياب ما يريد ومنذ تاريخ قديم ، لان ما ذكره الشاعر في هذا النص لا يعني القبول بالتاريخ ، الذي يذهب اليه فوزي ، لا يعني قبولاً مطلقاً به ويروم الزوغان منه ، لكنه لا يعلن البراءة الكاملة عن مروياته ، لان المخيال يمتلك وسائلة لإعادة انتاجه شعراً.

توصل الشاعر اوكنافيوباث : الى ان التوفيق بين التاريخ والشعر ضروري ، ولكن لصالح الشعر لا للتاريخ . فالشاعر يحاول دائماً التملص من طغيان التاريخ حتى وهو في عمق ارتباطه بمجتمعه الذي يعيش فيه / فوزي كريم / شاعر المتاهة / وشاعر الراية / الشعر وجذور الكراهية / دار المتوسط / ص28//

الشخص الحاضر في مقطع النص من قصيدة " المعنى الكامن " تلاعب بالانا ، هو الذي زاول غشاً عليها وتكتم على المخفي فيها ، لكنه في اللحظة التي حدق الانا في المرآة ــ الاخر الغائب / لمح وجهاً فاقداً لسماته ، بمعنى تشوه الانا وبروز العيب الواضح ولم يستطع التستر مع التشوهات . وما يعنيه فوزي تفكك الهوية الخاصة بالكامن . لان الوجه بملامحه خسر سماته . هذا تعبير عن صراع ثقافي بين الانا / والاخر وحلم الانا بالحفاظ على خصائصه المميزة له ومميزاته المعلومة . وهذا ما اكد عليه المقطع الثاني من النص :

اركب ُ بحراً قاطرة ، خذ طائرة ، خذ مركبة الفضاء .

واختر للنفس بلاداً دون حدود خطت فوق الماء

حلق كالنسر على القمم ،

واقم في رحم الارض جنيناً للبركان

بين الحمم

ستعود لذاتك ثانية وبألف قناع

يخفي أثراً من وجه ضاع

في البحث عن المعنى الكامن

الامر واضح وقوي ، وفيه قسوة ، وضغط نحو الاختيار للخلاص ، هروباً وسعياً نحو فضاء مفترض لا حدود له ، انه أكذوبة بوهم بها الشعر ، وجعلها مرسومة فوق سطح الماء وضاعت تفاصيل الخارطة . لكن الشاعر ينحرف ويلوذ لمنح الذات ، لمن نادى عليه الشاعر ويلح عليه اتخاذ صفة النسر والصعود على قمم الجبال ، وان لم يشأ له ذلك ليحضر هوة في الارض ، ويختارها كهفاً او رحماً ويتحول كل شيء فيه الى ناسف مدمر .

الملفت للانتباه التحول الثقافي في تجربة فوزي كريم ، بعد مرضه في السنوات الاخيرة وهذا ما تبدّى في عدد من قصائده وكتاباته النقدية واتضح لي بأن دراسة فوزي المهمة عن السياب في كتابه المثير للجدل " ثياب الامبراطور / الشعر ومرايا الحداثة الخادعة " وتفوقه المعرفي في ملاحقة ظاهرة الموت في شعر السياب . والتي لم يجدها خاصة به ، بل هي امتداد طبيعي لتجربة الشعر العربي الحديث والقديم . لان الموت المفردة التي يعيشها الانسان في الفترة الحرجة من حياته ، وخصوصاً تلك التي تمثل شيخوخته واضطرابها بأمراض خطيرة . ولذلك وظفتها الشعرية العربية ضمن مجال الغنائية العربية كما قال فوزي ، بوصفها حقلاً خيالياً خصباً ومتمتعه بقدرتها الهائلة على الاشباع الواهم من اكثر الحقائق حضوراً .

شخص فوزي كريم معايشة السياب للموت الذي تكرس لفظة حية في تجربته الشعرية بوصفها وقاية وتميمة لفترة طويلة من الزمن الى ان أدخل عنوة وبيده عزرائيل ، فتخلى عن الكلمة وبدأ " الفعل " فلم تعد كلمة الموت ترد في شعره على الهيئة التي كانت ترد في السابق / فوزي كريم / ثياب الامبراطور / دار المتوسط / ص147//

ويبدو بأن فوزي كريم تشرب بالموت الذي عرفه السياب وتعايش معه . لكن فوزي تجاور معه بوصفه مفردة فقط ، بينما السياب عرفه فعلاً . وكتب عنه متمثلاً حضوره في الميثولوجيا العراقية ، وهيمنته في العالم السفلي .

انغمار فوزي في فحص الموت السيابي ، جعله قريباً من تنوعاته الدلالية ومكوناته العديدة . لذا من يقرأ دراسة فوزي عن السياب سيتوصل الى تعرف كلي لعلاقة السياب بالموت موظفاً ــ فوزي ــ هذه المفردة التي تدنو من كونها كلمة وتحولها الى فعل متحقق ، لان شعر السياب وعزلته والاحساس بالوحشة ، قدمته اكثر تعايشاً . وما اريد التوصل اليه هو تعمق ثقافة فوزي كريم بالموت نفسياً وعضوياً واسطورياً وفشلاً بالمجال الاجتماعي والانهيار السياسي ، كلها تفضي الى نوع من الخيبة والاحباط ، حاول السياب مواجهة كل ذلك من خلال الاسطورة كما في قصيدته العظيمة " انشودة المطر " التي وظف فيها الميثولوجيا لترميم موقفه الانطولوجي وعلاقته التي خسرها ولم يفلح مع الانثى لإعادة التواصل معها ، ولاذ بالأسطورة موظفاً حضوره الحقيقي بمماثل رمزي وكأنه الاله دوموزي ، والارض ، هي الانثى المجازية ، لكنه لم ينجح مادياً وانتهى السياب وقد ترك وراء خسارة كبيرة جداً .

لكني وانا أقرأ ديوان فوزي كريم " ما الشعر الا زلة اللسان " واجهت منذ قصيدته الاولى في هذا الديوان " المعنى الكامن " وقد المح لنا بالشعر الغامض والمتصاعد شيئاً فشيئاً حول التكشف ، لكن النص كله اختار سيادة غموض المعنى ، لا بل التستتر عليه لا بل التكتم ، بحيث لم تعد لحياة الشاعر من معنى يستحق العيش بسببه .

لذا بالإمكان الاشارة لموقف السياب الوجودي وتكرس عتبة انطولوجية قوية جداً مع الموت وتعايش معه بالمطلق وقادة الى الميتافيزيقيا ، لان الموت لديه يمثل خلاصاً من الازمات الوجودية التي لاحقته بقوة وهذا ما اشار له عدد من الاصدقاء الذين عرفوه عن قرب ، مثل د. احسان عباس ليس سهلاً على شاعر مثل السياب يهاجر اشبه بالمطرود من جماعة الاصدقاء والذين فتحوا له باب العالم السفلي . بمعنى جماعة الشعراء الذين تجاهلوا السياب واخذوه للحظة الانهيار هي التي جعلته يتأمل مصيره بوعي ومعرفة ولم يكن غريباً عليه اللجوء للاسطورة والاستعانة بها " انشودة المطر " . حاول التعويض لكل خسارته وانكساراته لما افضت به اليه الاسطورة ، حيث معاودة الحياة لنسقها الخصوبي وتمركز رمز الماء في توظيفه لعدد من الانهار في تجربته الشعرية ، ومقاومة الجفاف الروحي والتصحر الثقافي .

اخيراً نجح السياب من خلال دراسة فوزي كريم المهمة بالتوصل الى القمم الداخلية التي تمثلها الشعر والابتعاد عن الوقائع التاريخية التي تدعم تخليق الشعر ، بقدر من تتركه حطاماً . ان المعنى الداخلي والشعرية السيابية اعادت الاعتبار للموقف الذي انتصر للشعر المقاوم للموت ، لان الشعر سجل بدقة ومهارة خلود شاعر قبل السياب وشطب على عدد اخر ، على الرغم من الكثير من ظلت ماثلة بعد سواد المحو . لم يذهب للموت مباشرة ، بل تحايل على المجاز وما اطلق عليه زلة اللسان ، او وظف طاقة الرمز للتعبير عن الموت ولم يكن وقحاً في تحديه مثل السياب ، كتب كثيراً عن الموت المجازي او تمظهرات الاماكن المتعبة بسبب شيخوختها والاحساس بالعطل الروحي وكأن فوزي كريم وظف موقف فرويد الذي قال :

تفقد الاشياء والاحداث معانيها ، تنطفئ الفوازع والرغبات بمقدم الشيخوخة وتضمحل القدرات ويصير كل شيء باهتاً فما الذي يبقى اذن للموت كي تحطمه ؟ .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

الفلسفة ركيزة اساسية للذكاء الإصطناعي

صلاح عباس: على مدى تاريخ الحقب الصدامية لم يشكل فن الحرب ظاهرة مميزة مثلما موجود في العالم

الدكتور سامي سعيد الأحمد.. مدونات التاريخ القديم بين وضوح المنهج ودقة التوثيق

موسيقى الاحد: موتسارت الاعجوبة

فاضل السلطاني شاعر الترحال والبحث عن الذات

مقالات ذات صلة

كريم السعدون.. شاعر اللون وصوت الإنسان في فضاء التشكيل
عام

كريم السعدون.. شاعر اللون وصوت الإنسان في فضاء التشكيل

اميرة ناجي يقول الفنان العالمي فاسيلّي كاندينسكي: "اللون هو قوة تؤثر مباشرة في الروح."، وهذه المقولة تكشف جوهر التجربة التشكيلية التي يعتمدها كريم السعدون، إذ تتعامل أعماله مع اللون بوصفه طاقة وجدانية وروحية تتجاوز...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram