ستار كاووش
أنهض من النوم مبكراً، أنظر من خلال النافذة وأتساءل كالعادة: كيف ينمو العشب وينبثق عادة نحو الأعلى بكل عفوية وحكمة؟ لماذا ترتقي الأزهار واقفة وهي تتحسس الفضاء المحيط بها؟ لماذا تستدير زهرة عباد الشمس وتفتح وجهها بسحر بإتجاه الشمس لتستمد منها الطاقة والقوة والجمال؟
لماذا تنتصب الاشجار بهذه الوقفة الثابتة الجليلة؟ حتى نحنُ، لماذا نرفع رؤوسنا الى الأعلى في حالة النشوة والغبطة والإعتداد الممزوج بالفرح؟ أليسَ جميلاً أن نحاكي هذه الزهور الجميلة والأشجار وحتى السلالم التي تطلعُ نحو الأعلى؟ لمَ لا نمضي بحياتنا ونحن ننظر الى الضوء والفضاء المفتوح على مصراعيه. أَلَم يحاكي الانسان إستقامة الأشجار والطبيعة حين إنتصب على قدميه وساقته طموحاته لمسابقة الريح؟ ربما تَعَلَّمَ جدنا الأول من الطبيعة وإستجابَ لإرتقاء العشب والأزهار؟ إنتصب الانسان على قدمية منذ سنين طويلة، ووقفَ مثل الأشجار، ليمضي في صناعة الجمال وتحقيق طموحاته التي تنموا نحو الأعالي.
رأيتُ جاري قبل يومين متذمراً، بعد أن رأى عشب حديقته صار طويلاً جداً أثناء سفره، لدرجة صعب عليه جَزَّه. هو ينظر بإنزعاج لطول العشب، بيننا أنظر أنا لسيقان العشب الخضراء الرقيقة التي تنمو وهي تداعب الشمس، السيقان الودودة التي كنتُ أراقب الندى وهو يتسلقها كل صباح، وبتُ أنظر بداية كل يوم من فوق السياج، لأتابع إستطالة العشب وهو يتنفس مثلي تماماً. مع ذلك كنتُ أعرف أن الحياة تمضي في كثير من الأحيان ليس كما نريد أو ننتظر، فقد شممت فجأة رائحة العشب المقطوع، فعرفت بأن جاري قد بدأ مهمته فعلاً.
أتعَلَّمُ من الطبيعة دائماً، ففيها الدروس والعبر وكل ما يقودني نحو نجاحات غير منتظرة. وفي هذه الطبيعة أتابعُ دائماً الأشياء التي لها ظلال واضحة، ذلك لأنها تكون منتصبة في الغالب، وتبدو معتدة بنفسها. لم لا نتعلم من الطبيعة بخصوص هذا الأمر؟ فالإستقامة حياة، والرقاد ذبول ونهاية. والجانبان يمنحانا دروساً بليغة للمضي قدماً، نعم فالوقوف والإنكسار مثل الليل والنهار، والأمر عندي يشبه الفرق بين لوحات فنانَيْ روسيا العظيمان ليفيتيان وشيشكين، فالأول يرسم الأشجار الباسقة التي تناطح الضوء والسماء والفضاءات المفتوحة، بينما الثاني إنشغل برسم جذوع الأشجار المكسورة وسط غابات روسيا الشاسعة، يدخل الغابة ويقضي أياماً وهو يرسم جذع شجرة مكسور هنا، أو جزء محطم ومتآكل من بقايا شجرة غطتها الطحالب والرطوبة هناك، أو حتى ما تركه الحطابون خلفهم بعد تقطيع الأشجار. وإن كنتُ قد أحببتُ لوحات ليفيتيان فالأمر يتعلق بالتفاؤل أما شيشكين فأنا أنحني دائماً للطريقة التي يرسم بها، لكني أنظر أبعد من ذلك وأفكر بالعِبرة التي أراد إيصالها لنا من موت الأشجار وإنكسارها الذي يبدو محتوماً، أنه يمنحنا الموعظة والدرس من خلال دراما الطبيعة وموتها ثم حياتها التي تتجدد. وهذه النظرة لها علاقة بنوع وكمية التفاؤل التي يحملها الشخص الذي يشاهد لوحاته، فالفنان هنا يواجه الطبيعة بطريقة مليئة بالثقة والوضوح، ويخلق من الإنكسار جمالاً، وكإنَّ الأشجار الميتة تنهض من جديد.
رغم أن لوحاتي تبدو لأول وهلة ليست ذات علاقة وطيدة مع الطبيعة، لكن عند تأملها جيداً، سيظهر بوضوع تأثير الطبيعة وقوة سطوتها على أعمالي، لكني أُحَوِّلُ كل ما أراه في المنطقة الريفية التي أعيش وأرسم فيها، الى أشكال وزخارف وتنويعات ومساحات وخطوط متداخلة، مستمدة كلها من الطبيعة، وهنا لا أُحاكي الطبيعة حرفياً، بل أشير اليها وأوظفها بلغة تشكيلية.
أنتظر مفاجئات الطبيعة دائماً، بذات الطريقة التي سأنتظر فيها عشب الحديقة وهو ينمو من جديد، وسأنشغل برسم خطوطي نحو الأعلى، وأنظر الى لوحتي وهي تتناغم مع هذا اليوم الجميل وهذا الفضاء الساحر الذي أراقبه الآن من نافذة المرسم.