TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > في بيت تولستوي

في بيت تولستوي

نشر في: 11 يونيو, 2010: 04:25 م

ليف تولستويكانت الطريق الممتدة من (موسكو) إلى (ياسنا باليانا) طويلة لاحبة، وكان شِيات من الخضرة تستبق، تياهة، مستطلعة على عِذار الطريق، ثم تتناءى، في منسرح النظر، فتأتلف منبسطة في مروج فسيحة تارة، وتختصم ممزقة في فيء أغصان متواشجةٍ ملتفة، تارة أخرى.
وكانت السيارة قد هدرت أربع ساعات أو تزيد، من (موسكو) إلى (ياسنا باليانا) وهي تلتهم أديم الأرض المعبّدة المليسة، الأرض التي كان الكاتب العظيم يضرب فيها، وهو شاب غني، بعربته الفخمة، ويسعى فيها، بعد أن شاخ وامتد به العمر، ماشياً من (موسكو) إلى بيته البعيد، عازفاً عن ترف المركبة المريحة، مرتدياً ثيابه اللبيسة الخشنة، آخذاً بمدرجة فلاحٍ روسي فقير.- هذا هو بيت (تولستوي).قالها السائق، مومئاً بسبابته إلى البيت، كأنما يومئ إلى معبدٍ مقدسٍ ينبغي لك أن تخلص إليه، ونفسك مجنحة بالمحبة والخشوع، بريئة من بدوات الجسد وأوضار المادة، وبدا البيت وسيعاً مترامي الجنبات، تكتنفه الأشجار السامقة. ونسمت في ذهني، والسيارة تقترب، شيئاً فشيئاً، هينماتٌ من ذكرى روايات (تولستوي) التي غذّت خيالي ورفدته بألوان حية باقية منذ زمن بعيد بعيد.وكنت قد قدمت مع طائفة من الزائرين – جلهم من السلك السياسي – وسلكنا ممراً ظليلاً، توزعت على طرفيه شجيرات الورد، متعانقةً، في غير تنسيق، لعلها كانت توحي إلينا، وهي تهشّ لأبصارنا المتطلعة مسربلة ببساطة ساذجة، بأنها ما تزال تعيش مثل صاحبها القديم حرة، نقية، تنبسط فروعها في الفضاء، مترعة بالحياة، وتمتد جذورها في الأرض الخيّرة تستصفي غذاءها الطيب.أجل، ههنا كان يعيش (تولستوي) ، على هذه الأرض كان يدرج ويتعثّر، طفلا صغيراً، متزايل الخطا، ثم يركض فتى يافعاً، ليسابق أخوته على صيد الفَراش، أو ليجلب إلى جدته العجوز باقة من البراعم المنوّرة. ههنا كان يحلو له الجلوس، ليرنو إلى (أكيم) الخادم المتصوف يناجي ربه:- يا رب، أنت الطبيب وأنت الصيدلي.أو يصغي إلى ذلك الشيخ الأعمى يقص عليه طرفاً من الحكايات الشعبية وقصص ألف ليلة وليلة، لينثر ، في خياله، بذوراً، تُؤتي أُكلَها، ذات يوم، روايات رائعة. أو يراقب الخادم (كريشا) لا يني ينتحب، ليل نهار، ليعديه ببكائه ويجعل منه في المستقبل (ليوفا ريوفا) ، أي (ليف) النوَّاحة.ها هي ذي الغابة التي عثر فيها، وهو ما يزال فتى صغيراً طاهر القلب، على غصنٍ أخضر، ودفنه في خشوع ساذجٍ، معتقداً أنه سوف ينبت ويورق ويهب الخير للناس كافة.ههنا امتدت لوحة صغيرة كتب عليها: (في هذا المكان ولد "ليف نيقولايفتش تولستوي" في 28 آب عام 1828)، بل ههنا عرفت روسيا مولد أكبر كاتب إنساني.ودخلنا بيت (تولستوي) . إنه بيت مؤنس، خلّفت يد العتق والقدم لمساتها على أثاثه وجدرانه. واستقبلتنا دليلةٌ روسية في ريّق العمر، حسنةُ السمت، نديّة الصوت، قد وعت في ذاكرتها سيرة (تولستوي) وملامح بارزة من أدبه وفلسفته، موصولةً بكل أشيائه الماثلة الباقية، وجعلت تقتطف لمحاتٍ من سيرته الحافلة وتنفضها في أداء طلي، حتى يوشك السامع أن يمثل في وهمه أن تولستوي ما يزال حياً، يتوقع زيارتنا ويستقبلنا بابتسامته المرحبة الوضيئة.وكأن القائمين على أمور الدار قد ألمّوا بما يختلج في النفس من ظن، فوضعوا في الرواق، تمثال (تولستوي) يرحب بزائريه، وإلى جانبه لوحة تجلو كلمات (لينين) المأثورة عنه:- إن (تولستوي) هو مرآة الثورة الروسية.وصافح أبصارنا، تمثال نصفي خشبي، يحكي رأس (تولستوي). لله درّ تلك الأنامل اللبقة التي مرّت على الخشب فألانت منه، فحفرت هنا، وشذّبت من هنا، ونقرت هناك، حتى اشرأبّ من الخشب الطيّع، تمثالٌ معبّر يكاد يتكلم. أجل كان يتأوّد، من قبل، في الخشب المنحوت، غصنٌ حيٌّ ريّانُ، ثم جفّ وغاض نُسْغه الطري فمات وأضحى حطباً يابساً، ليبعث مرة أخرى، وتنسكب في إهابه وليّاته ومطاويه، معانٍ من الحياة الخالدة، وينتفض تحت نقرات المحفر الصنّاع وقبلاته، أثراً فنياً ، مزهواً بأنه يحمل قسمات أكبر كاتب إنساني عرفه القرن التاسع عشر.وبدا لي ، في مسنح نظرةٍ خاطفةٍ، أن رأسه يماثل هامة الأسد، تترسلّ لبدته على فوديه، منسابةً، مترفّقة، وتتدفق لحيته كاسيةً عارضيه، منحدرة على صدره، وتحنو فوقها سبال شاربيه، مظللة شفتين واشيتين بالحساسية المفرطة المرهفة، ويبرز أنفه في هذا البحر اللُّجيِّ من الشعر، ضخماً واسع المنخرين، كأنما يبغي أن يستاف عبق الأرض كلها، ويحبو فوق عينيه حاجبان كثيفان، تنفسح في أعلاهما جبهة عريضة يحفّ بها الشعر الأبيض، فكأنها السماء الرحيبة، يكتنف حواشيها ركام الغيوم.وتملّى بصري عينيه، وتمثّلتهما عينين زرقاوين، ترسلان من وقبيهما جُذىً وضياءً ووجداً. لقد تحدّث عن عينيه المشعّتين كل من اجتمع إليه. إنهما تحدقان إليك، وتريقان نظرات زاخرة متقدة فكأنهما البرق يتخطّف السماء في غابة موحشةٍ، فإذا نعمت بهذا الألق الباهر، لم تدر كيف يمكن أن تواري الحقيقة عن عينيه، ولكنك ما تلبث أن تستشعر الطمأنينة وتنغمس في النظرة النافذة، تودّ أن تغوص في معانيها العميقة، لعلك أن تظفر بألف لؤلؤة ولؤلؤة، أجل، إن في هاتين العينين تتلخّص – كما كان يقول عنهما (مكسيم غوركي) &a

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram