د. جليل كمال الدينيعد الشاعر المصري الكبير، أحمد شوقي (1869- 1932) واحداً من كبار قادة رواد الكلاسيكية الجديدة في الشعر العربي المعاصر، بل قمة "حركة البعث والاحياء" الشعري (على حد ما جاء في كتاب "مقومات الشعر العربي الحديث والمعاصر"، للدكتورين محمود حامد شوكت، ورجاء محمد عيد، دار الفكر العربي، القاهرة، 1975، ص108).
وجاء في تعريف هذين الباحثين بشوقي مزيد من اللمحات ذات الدلالة (حيث نقرأ على ص109، من الكتاب المشار اليه آنفاً)، ان الشاعر شوقي نشأ في جو مترف في قصر الاسرة الحاكمة، في مصر، وتثقف في مدرسة الحقوق. وفي قسم الترجمة- اتقن الفرنسية، بالاضافة إلي التركية، والعربية. وهو يتحدر من أسرة تجري في دمها التركية، والشركسية، والىونانية، والكردية، والعربية. وساعدته اسفاره المتعددة إلي فرنسا، وانكلترا، والجزائر، والوطن العربي على نمو طاقته الفنية. -1-وظل من سنة 1892 إلي سنة 1914 يتغني بالخديوي عباس، وعندما عاد شوقي من منفاه في الاندلس تحولت قيثارته إلي الشعب يتغني بآماله وآلامه... وهو يمثل قمة حركة البعث والاحياء، مع اطلالة اكبر على حركة التجديد. فقد واصل المسيرة التي بدأها البارودي في استيحاء التراث العربي، مع قدرة على تمثله خصائصه الفنية، وساعده عليها استيعابه الواعي لكل الانغام الشعرية في تاريخنا الادبي ومعايشته لها.وفي رأينا، فان هذه اللمحات الدالة، تقدم، بشكل مركز مكثف، جوهر ابداع شوقي، شاعراً وظاهرةً، ومدرسة شعرية- فكرية- جمالىة. وبالطبع، قد نختلف معها، في هذا التفصيل او ذاك، لكن الجوهر يظل في معظمه صحيحاً، معتمداً. وليس، هنا، مجال بحث ابداع شوقي، كاملاً، في المرحلتين المعروفتين (مرحلة ما قبل النفي، ومرحلة ما بعد النفي)، لاننا نود القاء الضوء على رؤية شوقي في الظاهرة التولستوية. وليس من هدفنا هنا دراسة شوقي تفصيلاً.-2-لقد بات شوقي وتراً مرهفاً يتحسس بآلام الشرق، ويهتز للظواهر العالمية في الفكر والادب (ومنها ظواهر تولستوي، وهوكو، وفردي)، منطلقاً من رؤية وطنية عامة، منفتحة على العالم، بخصوصياتها الخاصة.فقد فهم شوقي نضال تولستوي الادبي من منظور هذه الرؤية، التي تعتمد الجوانب الاخلاقية والانسانية العامة، وتشيد بكفاح تولستوي في سبيل الفلاحين، وتعاطفه مع ثورات الفلاحين، ورؤياه الاشتراكية الطوباوية. فقد هزت الشاعر شوقي (مثلما هزت سواه من مفكري العرب وادبائهم المحدثين كمحمد عبده، وسلامة موسي، ومحمود تيمور، والجواهري، وامين الريحاني، وعمر فاخوري، والزهاوي، والرصافي، ونقولا حداد وغيرهم) هزتهم جميعاً قصة تحول تولستوي في فكره، وحتى في حياته، من صفوف الاقطاعيين النبلاء إلي صفوف الفلاحين والاندماج بهم وبحياتهم ومحاولة تمثل همومهم ومطامحهم. يقول امين الريحاني (في كتاب "وجوه شرقية وغربية"، دار ريحاني، بيروت، 1957، ص19): "وأما الاعمال التي تثبت اقوال تولستوي وتعز تعالىمه فوافرة. ويكفي ان اذكر انه ولد في ظل دولة مستبدة، وشب وعاش ديمقراطياً حراً، بل اشتراكياً، بل فوضوياً مسالماً. ولد حيث يعد القانون منزلاً وذا خاصية الهية... تربي في حضن الترف والنعيم، وعاش بين الاشراف والاعيان، ونراه الآن نابذاً لقبه، ومجرداً نفسه من كل زخارف الحياة ولذاتها. ولد ليامر ويستأثر ويستبد، فأخذ يبشر بالحب الشامل والحقوق المتساوية، والسلام العام. ولد ليحف به الخدم، فصار أخاً للفلاح، وخادماً للانسانية التي تتألم من الظلم والاستعباد... ولد يتمتع ببذخ الاشراف، وجمال منازل الاعيان، فترك ما هو ملكه من البيوت، وقسم ارزاقه بين فلاحيه أو "شركائه"... امرأته تترفع عن الشهب، وتسعي في زيادة ثروتها وتوسيع املاكها، وهو يقول قول الاشتراكيين ويعمل به... ".هذا ما رصده الريحاني (وكان معاصراً لتولستوي). وما لم يذكره، هنا، هو- ان تولستوي شاد المدارس للفلاحين، وأبنائهم، ودرسهم بنفسه، سوية مع المعلمين الاخرين. وحين قمعت القيصرية ثورة 1905 بالنار والحديد، كتب تولستوي مقاله الشهير بعنوان "لا أستطيع الصمت!"، هاجم فيه الارهاب القيصري، وأوضح (كما تقول العالمة الراحلة د. حياة شرارة، في كتابها "تولستوي فناناً"، دار الطليعة، بيروت، 1979، ص179)- ان استياء الفلاحين مصدره احتىاجهم إلي الارض. بل ان تولستوي اعتزم التخلي نهائياً عن المحيط الارستقراطي، فترك البيت بمصاحبة طبيبه، حيث وافاه الاجل، اثر مرضه في الطريق، فدفن في ضيعته "يا سنايا بوليانا"، في قبر بسيط، تجلله الزهور، طبقاً لوصيته.لقد اثرت كل هذه الوقائع في شوقي، وفي ادباء العرب ومفكريهم، في مطلع القرن العشرين، وعقده الثاني، واثرت فيهم كذلك تعالىم تولستوي للاشتراكية الطوباوية، ودفاعه الحار الملتزم عن الفلاحين (حتى ان مفكراً عالمياً كبيراً وصف ادب تولستوي بأنه مرآة الثورة الفلاحية). ومن هنا، فحين توفي تولستوي، هبّ شوقي، بين عديد من شعراء الشرق والعالم، صادحاً بقيثارته الجليلة، ممجداً حياة تولستوي وابداعه، وثورته، وتكريسه نفسه وادبه، في اخريات حياته، للدفاع عن الفلاحين والفقراء عموماً، مسجلاً ذلك في مرثاته الخالدة لتولستوي (التي نطالعها في الجزء الثالث من ديوانه- الخاص بالمراثي-، والمطبوع بعد
شوقي وتولستوي - مشتركات قيمية في إستلهام التراث العربي
نشر في: 11 يونيو, 2010: 04:27 م