عن لوموند - أريد أن تجري مراسم تشييع جنازتي دون طقوس دينية مزعومة، وأن يدفن جسدي في التراب، من أجل ألا يتعفن، كتب هذا الأديب الروسي ليون تولستوي في مذكراته قبيل عام واحد من وفاته في تشرين الثاني من عام 1910، حيث يصادف هذا العام الذكرى المئوية الأولى لوفاته، نعرف أين وكيف مات تولستوي، في محطة صغيرة في استابوفو على بعد 130 كم من موسكو،
بعد ما هرب ليلاً من منزل المجانين كما أسماه في بلدته ايسانيا بوليانا، في تلك اللحظة استسلم الكونت تولستوي لمعركته الأخيرة، وانسلخ تدريجياً عن شهرته العالمية وعن ثروته ومجده ليواجه الموت ببساطة الفلاح البائس، ولكن ربما لم يستطع أحد سبر ومعرفة معالم وحقيقة هذه القامة العالية والواسعة الأبعاد بعد مضي قرن على وفاته، والتي تكتنفها تناقضات غريبة، فهو الإنسان الذي جمع حوله تلامذة كان همهم الاستلهام من فكره وطريقة عيشه.‏ وكانت له معتقدات دينية وتربوية تأثر بها غاندي ومارتن لوثر كينغ، وهو الإنسان المشيطن الذي طردته الكنيسة بسبب معارضته لها ودعته بالملحد، عاش النزاع الفلسطيني بين الزهد والشهوانية، وقد أثارت شخصيته وأعماله إشكاليات بقيت علامات بارزة في الأدب العالمي حتى وقتنا الراهن، فالرجل لم يكتف بحدود كتابة الأدب بل قدم نفسه بوصفه ناقداً ومصلحاً، بل وحتى رجل دين، وتعتبر أعماله الروائية قامات شامخة في الأدب العالمي.‏ في البداية لابد من الإشارة إلى أن مؤلف رائعتي الحرب والسلام وآنا كارنينا عاش عدة حيوات بالتتابع تقسم أولاً: الطفولة المشرقة، ومن ثم عشرون عاماً فظيعاً - حسب اعترافه - تميز بالإلحاد والحرب، ومن ثم عشرون عاماً من الحياة الزوجية المستقيمة والمنتظمة وخلال تلك الفترات نشر تولستوي معظم أعماله الرائعة.‏ وأخيراً بدأت تتوهج داخله جذوة التمرد ضد كل أشكال الثراء والنظام القائم والفن وحتى الأدب، وشهدت حياته العائلية توترات لم تنفع معها كل محاولات الاصلاح، رغم التقدير الكبير الذي كان يكنه لزوجته صوفيا والتي وصفها سابقاً بأنها الزوجة المناسبة تماماً لكاتب، وكانت خير معين له في إنتاجه الأدبي ولكن أخفقت في تفهم تفكيره الجديد.‏ وبالتالي فإن شخصيته المتفردة حجبت قليلاً من بريق أعماله الأدبية، والذي أصبح وهو في الأربعين من عمره شكلاً من أشكال ضمير الشعب الروسي.‏ في أدبه، جعل تولستوي من هذا العالم مادة لأعماله، فقد امتلك القدرة الفريدة في الأدب الروائي ليقول كل ماهو واقعي، كما هو، لايصنع أسلوباً، عرف تولستوي كيف يضع ثقته في قوة مايقوله بدلاً من الأسلوب الذي سيعتمده في قوله ويكفي قراءة جملة واحدة من رواية الحرب والسلام يصف فيها تولستوي الأمير العجوز نيوكولاس بولكونسكي، للوقوف على مدى واقعية تولستوي في الوصف (انفجر في ضحك جاف، بارد، مزعج، ضحكة مرخمة غابت عن مشاركته العيون) إذ ليس لدى تولستوي أي معنى متوار أو فكرة تحتاج لفك رموزها، فهو عندما يصف حصاناً لايصف سوى الحصان وليس رمزاً لأم أو لأب أو للموت.‏ ولذلك تربع على قمة الأدب الواقعي، عكس فيه صورة الحياة الحقيقية للناس الفقراء في روسيا قبل مئات السنين، في روايته الملحمية (الحرب والسلام) غطى تولستوي مساحة زمنية طويلة، اشتملت على الكثير من الشخصيات وأضاء الكاتب عوالمهم الداخلية بقوة الأمر الذي أثار دهشة الكتّاب، والنقاد جميعاً لدرجة أن مكسيم غوركي قال عن الرواية إنها تشبه إلياذة هوميروس وإنها أعظم عمل أدبي في القرن العشرين، وساعده في إنتاجها زوجته صوفيا، وكانت سبباً في وصوله إلى درجة عالية من النجاح والشهرة.‏ ثم أصدر وفي ظل الخلافات مع زوجته، وكذلك في ظل مساعدتها له في عمله الأدبي، إذ وربما كانت تلك الخلافات التي جاءت بعد وئام طويل سبباً في الإبداع لدى تولستوي، رائعته الثانية آنا كارنينا، والتي بدأها بتلك العبارة الشهيرة، التي أصبحت قولاً مأثوراً فيما بعد (الأسر السعيدة متشابهة، أما الأسر التعيسة فلكل منها قصصها المختلفة وتعاستها الخاصة المميزة) حتى وصفه دوستويفسكي بقوله (ليس ثمة عمل أدبي أوروبي يمكن مقارنته مع آنا كارنينا).‏ ورغم كل النجاح الذي حققته رواياته، ظل تولستوي يرى فيها وخصوصاً الأعمال الأولى مايسمى بالفن الاستعراضي المكتوب بغير غرض والبعيد كل البعد عن إدراك وفهم الإنسان البسيط وخصوصاً الفلاح الروسي.‏ وقد رفض تولستوي قبول جائزة نوبل الأدبية مرتين لأنه كان يرى أن النقد الأدبي المجامل مثله مثل الجوائز والمكافآت الكبيرة تؤدي إلى فساد الخلق الفني والأدبي للمبدع وابتذاله.‏ وفي مذكراته كتب (شيئان هما أكسير حياتي ، حبي التعبير عن أفكاري بالكتابة الروائية، وحبي لزوجتي صوفيا، ماذا يريد المرء من حياته أكثر من ذلك، لقد سعدت بحبي لصوفيا وبأبنائي وبأملاكي، ولكن أحس بأن حياتي قد توقفت فجأة!)‏
تولستوي مئةعام على الرحيل:الأسر السعيدة متشابهـة.. والتعيسة لها قصصها
نشر في: 11 يونيو, 2010: 04:32 م