أميل سيورانترجمة: عدنان المباركأظهرت الطبيعة كرما لكن ليس للجميع، بل فقط للذين حررتهم من التفكير بالموت، أماالباقون فجعلتهم فريسة الخوف الأقدم والأكثـر تدميرا ومن دون أن توميء لهم، ولا حتى الإيحاء لهم، الي سبيل الشفاء منه. وبقدر ما يكون الموت شيئا طبيعيا ليس بالطبيعي تذكره اللحوح والتفكير به في كل مناسبة. ومن لا ينساه للحظة واحدة يعطي الدليل على الأنانية والفراغ:
إنه يحيا عبر الإحالة الى صورته في عيون الآخرين، وليس بمستطاعه قبول فكرة أنه في يوم ما سيكون لا شيئا. إن كابوسه الدائم هو النسيان، إذن هو عدواني حاد اللسان ولن يفوّت الفرصة كي يستعرض مزاجه السيئ وتصرفات كهذه. ألا يخلو كل هذا من الأناقة - الخوف من الموت؟ إن هذا الفزع الذي يحفر في نفوس الناس الطموحين لا يعترض طريق الأنقياء، بل يلامسهم فقط لكنه لا يقدر على مسكهم. يستسلم له الآخرون عن كراهية ويحقدون على كل من لا يشعر به.مثلا تولستوي لن يغفر أبدا لهؤلاء السعداء الذين لا يعرفوا هذا الخوف، وهو يعاقبهم واصفا إياه بدقة ٍ يصبح بسببها منفرا ومُعديا، أما فنّه فسيكون معتمدا على أنه من كل الإحتضارات سيبقي جوهر الإحتضار، والقاريء المفزوع والمدوَّخ سيكررعلى نفسه القول: إذن هكذا يموت الإنسان! "يقتحم المرض عالما ذا إكسسوار متفق عليه وقابل للإستبدال، يحيا فيه إيفان إيليتش. وبصورة تلقائية يفكر بأنه مجرد توعك وقتي، إنزعاج قليل الأهمية، ولكن فيما بعد وتحت عبء المعاناة الأكثر وضوحا وأذي، والتي لاتطاق في الأخير، يأخذ في إدراك وضعه الخطير ثم تنهار روحه. (أكثر ما أراده إيفان إيليتش في لحظات معينة وبعد آلام طويلة، رغم خجله من الإعتراف، أن يرثي أحد لحاله كما يرثي لطفل مريض. أراد أن يقوم أحدهم بتدليله، أن يقبله ويبكي قليلا عليه تماما كما يحصل تدليل الأطفال وإمتاعهم. كان يعرف بأنه موظف كبير ويملك لحية شمطاء وبأن ذلك أمر غير ممكن لكن رغم كل شيء أراده). القسوة، وعلى الأقل في الأدب، هي علامة الإختيار. وكل ما كان الكاتب أكبر قدرة مال أكثر الى حشر أبطاله في أوضاع بلا مخارج: يلاحقهم، ويطغي عليهم ، ويسوقهم في شتي أنواع الطرق المقفلة والإحتضارات. وحتى القسوة ليست بالكافية بل الوحشية المفترسة كي تحصل متعة تصوير المصاب بمرض عضال في محيط من العادية والحرص على أدق تفاصيل الخوف الذي نشأ بإسهام شخص عاد ٍ نزل به الشقاء. (لكنه شعر فجأة بألم معروف، قديم ، أصم ، بارح، لحوح ، ساكن وخطير ". وتولستوي البخيل في إستخدام النعوت يطرح هنا سبعة كي يصف التجربة التي هي مؤلمة حقا. الجسد يظهر كواقع هش لكنه مفزع كموّزع كبير للمخاوف، وكان تولستوي محقا حين جعلها نقطة إنطلاق عند تحليل ظاهرة الموت. لا شيء على الإطلاق ولاحلّ في دائرة المطلق بمعزل عن أجهزتنا الجسمية ومتاعبنا. أمن الممكن تسليم الروح والإنسان مسمّر في النظام؟ أو يتعرض للتفسخ؟ في الميتافيزيقا لا مكان للجثث. وفي الأخير لامكان فيها للإنسان الحيّ. وكلما نصبح تجريديين ولا شخصيين - سواء أكان ذلك بسبب المفاهيم أوالأحكام المسبقة (الفلاسفة والعاديون يتمرجحون على السواء في اللاواقع) - يبدو لنا غير قابل للفهم ، والى درجة أكبر، هذا الموت المقترب. ولو لم يكن المرض لما إمتلكت هيئة إيفان إليتش الإنسان المسمي بالعادي، أيّ وضوح ولا إتساقا consistence. والموت بالذات يمنحه بعدا وجوديا حين يدمره. وفي القريب سيكون هو لاشيء، مجرد فسحة بين فراغي الصحة والموت، وطالما يموت يكون ذا كينونة. وأي شيء كانه قبلها؟ دمية تطارد الأشباح، موظفا مؤمنا بعائلته ومهنته. وبعد شفائه من أحوال الزيف والأوهام ها هو يفقه بأنه لغاية ظهورالمرض أضاع الوقت في التفاهات. وما بقي له من سنين كثيرة هو هذه الأسابيع القلائل المليئة بالعذاب والتي يظهر أثناءها المرض كواقع لم يحصل قبلها التحسس به. الحياة الحقيقية تبدأ وتنتهي بالإحتضار - هذا درس ناتج عن إعاشات إيفان إيليتش، وبريكونوف في (السيد والخادم)1. ولأن ما ينقذنا هو موتنا نحتفظ في نفوسنا بحكم مسبق على لحظاتنا الأخيرة التي هي وحدها، برأي تولستوي، تحررنا من الخوف، وبفضلها حسب ننتصرعليه. إن هذا الخوف هو جرحنا النازف، وإذا أردنا شفاءه علىنا أن نكون صبورين، ولننتظر. القلائل من الحكماء يقبلون بمثل هذا الإستنتاج، فعند السعي الى كسب الحكمة تأتي الرغبة الآن ومن دون تأخير، في دحر تلك المخاوف.وفي الحقيقة إنشغل تولستوي دائما بقضية الموت إلا أنها صارت القضية التي عذبته بعد الأزمة التي مر بها في عمر الخمسين حين أخذ مذعورا يسأل النفس عن (معني) الحياة. غير أن الحياة تنهار وينفك إسارها وتقحل كما تلقي ضوءا معينا على طبيعتها وقيمتها ومادتها الهزيلة المشكوك فيها وذلك في اللحظة التي يتعبنا فيها هاجس معناها المزعوم. هل علىنا الأخذ بماقاله غيته Goethe عن أن معني الحياة يكمن في الحياة نفسها؟ ومن تعذبه هذه القضية لايقبل تماما مثل هذا القول، ولسبب بسيط هو أن بداية هاجسه هي بالضبط ظهور لامعني الحياة.جرت محاولة إيضاح الأزمة و(الإنقلاب العقائدي) عند تولستوي، بنفاد موهبته. وهذا الإيضاح بالغ الضعف، فأعماله من الفترة الأخيرة مثل (موت إيفان إيليتش) و (السيد والخادم) و(الأب سيرغي) و(الشيطان) تملك الكثافة والعمق، وهذان لما إمتلكهما العبقري التي ذ
عن تولستوي كرم الطبيعة وجشع الإنسان
نشر في: 11 يونيو, 2010: 04:36 م