اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلامٌ عاديٌّ جداً: ما أجمل العالم في منتصف الذّاكرة

كلامٌ عاديٌّ جداً: ما أجمل العالم في منتصف الذّاكرة

نشر في: 27 أكتوبر, 2021: 12:02 ص

 حيدر المحسن

ما الذي يفعله الفنان غير إثبات أن شعوره بالأشياء مختلف؟ حتى الموت، أو ما نسمّيه نحن "الموت"، يراه الفنّ بصورة باب واسعة تؤدّي إلى الأمل المشعّ بصورة غير متوقّعة -وهذه نظرة الدّين إلى الموت، والدّين هو الممارسة الحياتيّة الأكثر انتشارا للفنّ.

يتوقع الشاعر دون ريب الصّعوبات التي تنتظره، وقد نُصاب بالحيرة أو بالدهشة من هذه المجازفة، ثم نجد أنفسنا مدفوعين إلى التثبّت بها وجعلها أرضاً لنا، يسير معنا المئات والألوف من الناس المختلفين عنا، بل وحتى الرهيبين منهم وغريبي الأطوار، ومع هذا نعدّهم جيراناً طيبّين لأنهم يفكرون مثلنا، العيش في عالم واحد ممتلئ وخالٍ من الاختلاف هو المفتاح الأول للسّعادة، بمعنى أن الفنان يخدمنا بالطريقة القصوى طالما كان إدراك السعادة مبتغى الجميع في نهاية المطاف.

يتواتر موضوع الموت في قصائد فاضل السلطاني في مجموعته الشعريّة "ألوان السيدة المتغيّرة" إلى حدّ أن القارئ يرى عيني الشاعر تتفتحان في الصبح الأول على هذا الموضوع الصعب، ولا شيء فيهما غير ألوانه، وغير ألحانه. الموت يجيء بلا رحمة، وبلا نهاية:

لا تجرِ يا تيمز | لا تجر يا فرات | سأحتاج أغنيتين | لأكمل أغنيتي|

وسأحتاج شيئاً من الموت | كي أبدأ الاغنية

لا عمل يضاهي الغناء لأن المرء يكون في أثنائه جادّاً على طول الخطّ، وبالإضافة إلى الغناء يمنحنا الشاعر الإحساس نفسه من الأمل في الموت عندما يكون موضوعه الحبّ. والموت هنا ليس الفراغ العدمي الذي عذّب الشعراء طويلاً، كما أنه غير خراب المدينة الميتة لدى "إليوت" في قصيدته الشهيرة "الأرض اليباب". الموت الذي يعنيه فاضل السلطاني هو القتل:

"وعلى النومِ شيءٌ من الدم | يُشبهُ وجهي. هل كنتُ أنا؟ | هل تقولين شيئاً | عن الدم فوق المياه؟ | هل تغنين شيئاً | عن الدم فوق السرير؟ | عن الدم فوق الأغاني؟".

وكي ينفي الشاعر هذا التكثيف في "ثيمة" الموت المبذول هنا في العراق، يلجأ إلى السّحر في الشِّعر، يلغي بواسطة مرآته بشاعة الواقع، ويعتبر الحياة التي يقدّمها الخيال إليه هي البديل:

ما أجمل العالمَ في منتصف الذّاكرة!

أنت لم تذهبي بعدُ

شعركِ ينحني فوق المائدة

يطولُ أو يقصرُ،

يعودُ الجنودُ من الحربِ،

.. وينجبون بناتٍ مثلكِ

فارعاتِ كالآلهة

وأنتِ هنا

لم تذهبي بعدُ.

إن كلّ ما جرى لا يمكنه إفساد روح الشاعر الذي يجد سعادته في عالم خاصّ من الحلم -من الحلم وحده- لأن الواقع لا يحمل له غير الأسى. لكنه لم يختر الحلُم منجًى ومنأًى، وإنما حقيقة يعيشها، ويجعل القارئ يشترك معه في هذه التجربة. إنه عالم من الحقيقة الشعرية ولا ينتمي إلى الوهم والهلوسة، والسبب يعود إلى المسحة الواقعية في شعر السلطاني، فهو يبلغ أعلى قمة في الحلم، ثم يستدرك أمره، ويهبط سريعاً إلى أرض الواقع ليرى وضعه الحقيقيّ، وليس الذي أخذه إليه بعيداً سحر الشّعر. وتتحوّل بهذه الصورة قصائد السلطاني إلى مرجع تاريخيّ للبلاد، الحروب والقمع وقسوة الحاكم... كأن القارئ يتجول وهو يقرأ الديوان في معرض للفن، حيث اللوحات على الجدران تصوّر العدم الذي يعيشه العراقيون. وفي واحدة من أروع قصائد المجموعة يعيد الشاعر اللّعبة ذاتها مع الواقع. إنه يكسر بواسطة الفن مرآة الوجود ويستبدلها بمرآة أخرى أوسع وأصفى، كي تكون الحياة أيسر وأحلى. ألم يصف النقّاد الأقدمون الشّعر بأنه الكذب الحلال؟ الشّاعر الحزين يعاتب البحر، محمّله معاناته التي بلا حدود:

ماذا لو كنتِ معي؟

لهزمنا البحرْ

.. لفتحنا الجوفَ الممتدَّ

من الطوفانِ الأكبرِ

واستخرجنا منهُ ضحاياهُ

من يونسَ حتى ابنِ أخي

ثم دفناهُ

......

لكنكِ لستِ معي.

*

هو البحر الحيّ الذي لا ينام، وهو يسمع، ويرى...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram