طالب عبد العزيز
بين الخوف من الافتقار والحاجة الى الخبز وتأمين متطلبات الحياة الاخرى تضيع السنوات، ويتبدد الجهد، وتفقد الثقافة معنىً من موجبات وجودها واستمراها. كان محمود البريكان، الشاعر يقول: "الشعر هو الذي يجب أنْ تكرس له حياة كاملة" ترى، من بيننا استطاع أن يجعل من حياته رهناً لمشروعه الكتابي؟
وأنّى يكون له ذلك؟ أكتب هذه وأنا أنوء تحت نير إلزام نفسي بكتابة مادتي للجريدة هذه، أو للمجلة تلك، والتي باتت تشبه القيد اليومي، واللازمة التقليدية، ولا اتحدث عن نفسي حسب، إنما هو واقع الكاتب والشاعر والفنان العربي اليوم.
تطالعني على طاولة الكتابة العشرات من أغلفة الكتب، التي جلبتها من المعارض، وجلها نوعيٌّ ومثير، تدعوني للتصفح والقراءة، وعلى صفحة اللابتوب الزرقاء تطالعني ملفات أكثر من كتاب، شبه جاهز لي، لكنَّ الامر يستدعي إعادة النظر. تصويب هنا، ومعاينة هناك، وتأمل في تقديم وتأخير، مع مراجعة لغوية أخيرة.. وكل ذلك يُذهبُ بالجهد والصحة والسنوات، فيما تنقر رأسي مادة الجريدة اليوم، وماذا ستكون، وكيف، ولمن.. وسط هذه المضايقة أشعر بلا جدوى ما نسعى اليه، فما خُلقَ الشاعر والكاتب والفنان لكي يجري، والى ما لا نهاية، وراء دنانير، لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تمكث في الجيب إلا لحظات، إذ سرعان ما تتناوشها أيدي البقال والطبيب ومحاسب المدرسة وصاحب مولدة الكهرباء وغيرهم الكثير.
ايُّ مقارنة بين مستعمل الحياة ومنتج الثقافة في شرقنا العربي ومثيله في أوربا وأمريكا ستكون ظالمة. يكفي أن أنظمتنا السياسية هي الاسوأ في العالم، ويكفي أنَّ المسدس الكاتم تسلل الى أقلامنا، وصارت بنادق خصومنا في الفكر والفن تطلُّ علينا من شاشات لابتوباتنا، مثلما يكفي ما تفعله الطبيعة في أرواحنا جرّاء التصحر والشمس المحرقة، التي تطالنا بنارها ثمانية اشهر في السنة، أما إذا جرى الحديث عن نظامنا الاجتماعي، الاكثر تخلفاً في الكون، وعن بنادق أهلينا، التي لا رادع لها، فهو الاقبح والانكى. المثقف يصارع وحوشا لا قبل له بها، فهي تفترسه في البيت والشاعر والمقهى، وتتوغل في روحه حيث حلَّ وأقام.
تفعل رسائل الاعجاب والثناء فعلها في النفس الكاتبة أو الشاعرة، وهو استحقاق جميل يتم بين منتج الثقافة ومتسلمها، كل كلمة من هذه وتلك تدخل المسرات عليه، هذا الكائن الورقي المخلوق من روائح الارض والاحبار، الذي إن أراد استجلب الزرقة لسمائه، وأدخل الاقمار عالمه، بحاجة دائمة الى كل ما يمدّه بالحياة، الى مَنْ يرفع عنه اعباء (مهنة العيش) كما يسميها بافيزي، ويجعل من الحياة لديه أمراً ممكناً، عبر سنِّ جملة من القوانين والتشريعات، التي تحميه، من تعسف الحاجات اليومية، وإذا كان هناك من خُلق ليصبح طبيبا أومهندسا أو تاجرا ... فهناك، في الجهة الاخرى من الكون، من خلق ليرفد الحياة بالمعاني السامية لها، وليجعلها مشروعا انسانياً قوامه الورق والحبر واللون.