TOP

جريدة المدى > عام > لماذا علينا قراءة جيرالدين بروكس؟

لماذا علينا قراءة جيرالدين بروكس؟

نشر في: 30 أكتوبر, 2021: 11:27 م

حنان علي

لم أتخيل أنّ رواية ستصيبني بلفحةٍ من الشوق، أو أنّ الشغف مع صفحاتها الأولى سيثير ذعراً لاحقاً من انفصالٍ مكلومٍ محتوم.

يومَ أنهيتُ ترجمة "أهل الكتاب" أفشيتُ للناشر عن إحساسٍ مبهمٍ من الفقد و حزنٍ دفين. سرعان ما تلاه اغتراب وجداني مع اكتمال أيام "سنة العجائب" . خشوعٌ و مكابداتٌ عميقة و حرب خضتها مع "مارش" . ألغازٌ، أزمنة قصية، إثارة تشويق، حكايات حميمة دافئة، موت و فقد و بؤس . تلمستُ أزهاراً مجففة بين الصفحات لعلها من شرفةٍ منسية؛ من تُراها جيرالدين بروكس؟ أكانت مخبأة في مقصورةٍ سريّةٍ، قصيّة عن هذه الأركان؟ بعيداً، حيث أضاءت الشموع وجهها مجويّ الملامح . أيّ أحداث طبعتْ ذهنها؟ أيّ تفاصيل؟ لعلها أوهام! لا ريب كوابيس، أو ذكرياتٍ لمجهولين لم يلتفت إليهم أحد في يومٍ من الأيام .

مكنونات رواياتها رسمت ملامحَ روحها الشاعرية الوقادة، فأيّ سيرة بات عليّ سبر أغوارها ، و قد وسمها النقّاد بجودةٍ لا تنضب سواء خطّت حواراً سياسياً مع أحد الزعماء، أو نثرت حكايات أبٍ مفقودٍ لنساءٍ صغيرات . يرى الكثيرون أن كل ما تكتبه بروكس لافت للنظر، مطعّم بالشِّعر هامساً أو رناناً .

"تحظى باحترام و شعبية واسعة"، أول عبارة طالعتها أثناء بحثي عن الكاتبة و الصحفية الأمريكية الأسترالية، الحاصلة على وسام أستراليا لتميز مساهماتها في الكتابة، أما رواياتها وتقاريرها الصحفية المفتتنة بالكون الأوسع، المحفزة على التعددية الثقافية والتفاهم المتبادل والمحذرة من التحيز الطبقي، فـلها حشد من القراء و المتابعين و المعجبين حول العالم .

لن يتوقع الكثير من القراء العرب، أن الروائية المولودة عام 1955 في سيدني بدأت مسيرتها المهنية كمراسلة حربية لصحيفة وول ستريت جورنال، حيث غطت أخبار الأزمات و الحروب في إفريقيا والبلقان والشرق الأوسط، كما نشرت مع زوجها قصصاً من الخليج العربي عام 1990 لتحصل على جائزة هال بويل من نادي الصحافة الخارجية.

خبرة واقعية

لعلّ قدرة بروكس الإبداعية خُلقتْ من رحم خبرتها إبان الحروب و الصراعات، راسمة ما قاسته طوال الوقت متأملةً المرارة التي يتجرعها البشر عبر أزمنة الكوارث . لا ريب أن كتابها تسعة أجزاء من الرغبة الذي نُشر عام (1994)، أتى بناءً على تجربتها بين النساء المسلمات في الشرق الأوسط و بات من أكثر الكتب مبيعاً على مستوى العالم، إذ تمت ترجمته إلى 17 لغة.

بإحدى مقابلاتها الصحفية؛ تُسِّر بروكس بأنها لا تملّ التواصل مع ضحايا الحروب، فكلما عصف الجو بشاطئ مدينتها، تهرع لزيارة المقابر، هناك حيث تتحرك شواهد قبور مخلخلة فوق أجساد شاباتٍ راقدات جوار أطفالهن. تجول بأصابعها حول حروف أسمائهن المنحوتة، متخيلةً شكل حكاياتهن و أعمارهن المسلوبة لتحيك بعضاً من أحداث رواياتها :" من الصعب أن تشرح لأطفالك سبب حبك للموتى، كثيراً ما ينعتني أبنائي بأنني ميتة غريبة الأطوار"

" الأمومة" تغييرٌ أقعد بروكس عن ممارسة عملها الصحفي الحربي، فأبدت مرونة بمواجهة ظرفها الجديد عبر البدء بكتابة الروايات، فحطت جائزة بوليتزر متوجة روايتها مارش (2005) المستوحاة من ولعها بـكتاب "نساء صغيرات" للكاتبة لويزا ماي ألكوت. هديةٌ من والدتها أثارت هواجس طفولتها عن "الأب الغائب" لتجسد حياته فيما بعد، عبر تأريخٍ جامعٍ للخيال مع واقعِ الحرب الأهلية الأمريكية و الكتابات الفلسفية لبطريرك عائلة ألكوت. لتمسي بذلك أول أسترالية تفوز بالجائزة التي "فاجأت كتاباتي" في إشارة لمقاطعتها لأوراقها لفترة من الوقت؛ "لكن بضعة أسابيع من الإلهاء اللطيف، عدتُ بعدها إلى مكتبي لأقوم بما أحب فعله على الدوام، أفضل ما لدي يوماً بعد يوم"

روح الصحافة ما جعل كاتبتنا راغبة بمجاورة الحقيقة، لعلّ اسماً تائهاً في تاريخ ما، قطعة ثياب مهملة، ورقة ، أو أي شيء عائد لشخصٍ لم تتح له الفرصة لتأريخ عمره، يُحمّلها واجب سرد حياته و تخليدها. في رواية (سنة العجائب) المؤثرة عن الطاعون الدبلي، لمحتْ بروكس إشارة عابرة بإحدى السطور لرسالةٍ ناجية خطّها قسيس القرية معبراً عن امتنانه للرب لحماية خادمته من الطاعون، بما مكنها من تلبية احتياجاته . سارعت جيرالدين إلى سجل أسماء سكان القرية لمعرفة أي شيء عن المرأة فلم تعثر على ما يخصها، و لا حتى اسمها، فالخادمات لا يتم أخذهن عادة بعين الاعتبار : "حاولتُ الإصغاء لصوتها غير المسموع، و نظرت للأمور من وجهة نظرها في رواية كاملة" . نُشرت سنة العجائب عام 2001 ، و تصنف من أكثر الكتب مبيعاً على مستوى العالم. ترجع أحداث القصة لـ عام 1666 عن خادمة شابة تعمل جاهدة لإنقاذ القرويين و النجاة بروحها حين ضرب الطاعون الدبلي قرية إيام الصغيرة في ديربيشاير .

كائنات جذابة

الشجاعة بأن تكون مراسلًا حربيًا، جريئاً بمزاوجة التاريخ مع الخيال، الجسارة ذاتها للتحلي بالمرونة وتغيير الاتجاهات . حينما بدأت بروكس روايتها "أهل الكتاب" ، أرادت أن تكون إحدى شخصياتها الرئيسية بوسنية، لكنها شعرت بعجزها عن "التقاط صوت سراييفاني أصيل"، وضعت الكتاب جانبًا ثم جعلت "حنا" شخصية أسترالية تتبع رحلة الهاجادا ؛ إحدى المخطوطات الأكثر قيمة في الثقافة اليهودية المهاجرةُ من إسبانيا إبان العصور الوسطى إلى بوسنة القرن العشرين، حيث تم إنقاذها وحمايتها من قبل المسلمين إبان الحرب العالمية الثانية، ثم أعاد المتحف الوطني في سراييفو ترميمها لاحقًا. إن سلاسة تشابك الأديان الإبراهيمية الثلاث في رواية أهل الكتاب، و ملء الفجوات التاريخية بشخصيات متخيلة و أحداث مدهشة خلال أكثر الأزمنة اضطرابًا في تاريخهم، جنباً إلى جنب مع الحفاظ على النص المقدس جعل من رواية أهل الكتاب تحفة لا تقدر بثمن فاقت شيفرة دافنشي مبيعاً . فازت الرواية بجائزة الكتاب الأسترالي للعام وجائزة الخيال الأدبي الأسترالي في عام 2008.

أما الانتصارات و الهزائم التي جمعت روحين جسورتين خافقتين غامرتا بكل شيء بحثاً عن المعرفة في أزمنة الخرافات والجهل، فما كانت سوى قصة حقيقة سردتها بروكس في روايتها معبر كالب (2011)في حبكة مترعة بالعاطفة و الإيمان والسحر والمغامرة . مؤكدة ما أعلنته على الدوام بالقول : "أحب العثور على قصص سالفة حيث يمكننا الإلمام بمعرفة شيء من الحقيقة الواقعية المثيرة للفضول، مع ثغراتٍ تفسح المجال لخيال ثري ".

"ما انفكت بروكس سيدة بإحياء الماضي بين يديها الماهرتين، مترنمة بصدى مخاوفنا العميقة في الحب والخسارة ، الدراما والمأساة ، الفوضى والوحشية". هذا ما كتبته أليس هوفمان في واشنطن بوست إبان تقديمها لرواية (الوتر السري) 2015 : حكاية (الملك داوود) أغنى الشخصيات في الأدب وأكثرها غموضًا؛ الرجل الوضاء عبر التاريخ. حيث تقشر بروكس الأسطورة عنه، متتبعة رحلته من رجلٍ مغمور لـشهير، من راعٍ لجندي، من بطلٍ لخائن، من ملكٍ محبوبٍ إلى طاغية قاتل . (الوتر السري)ملحمة مكتوبة بأسلوب مدهش جميل مجسدة الإيمان والرغبة والطموح والخيانة والقوة الآسرة .

صوتٌ بدأ يدوي في رأسي بختام لقائي المفترض بجيرالدين بروكس، لعله نداء أودُّ الترنم بعباراته هذه اللحظة : لا تهرم الكائنات الجذابة، مثلها مثل المعابد العتيقة و حجارتها و الحكايات، مثَلُ حال قلمٍ متفرد، مثلُ صفحات موشحة بالتعاويذ، و تفاصيل لا يُخمد شغفها مهما امتد الزمان .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

أوليفييه نوريك يحصل على جائزة جان جيونو عن روايته "محاربو الشتاء"

مقالات ذات صلة

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو
عام

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو

علي بدرفي مدينة تتلألأ أنوارها كما لو أنها ترفض النوم، وفي زمن حيث كانت النجومية فيها تعني الخلود، ولدت واحدة من أغرب وأعنف قصص الحب التي عرفتها هوليوود. هناك، في المكاتب الفاخرة واستوديوهات السينما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram