طالب عبد العزيز
لا ينطوي البصريُّ على شيء في وجوده وتكوينه، بل ليس له وجود مختلف بهذا الشأن، إلا بما هو متعارفٌ ومعلومٌ للآخر، فهو أقربُ الى كتاب مفتوح في حديقة عامة، ربما لرغد في العيش، ولطبيعته الفكهة أولاً، ولخلو ذاته من المضمر السيئ ثانياً، أو لأسباب نجهلها،
ففي الروح البصرية شيء من بذل متصل، على قلة ما لديها، وهناك قوة ايجابية، مصرّح بها في القول والعين، خالية من البغضاء والكراهية، لذا، فهو سريع التعريف بنفسه، ولا يتحسس من لونه، ولا من حاجته أحياناً، ولأنه كذلك، فهو لا يضمر أسراراً كبيرة، ولعل العيشَ الى جوار الماء لا ينتج شخصية مركبة، توحي بشيئ وتكشف عن آخر، فهي خصيصة الآخر، المختلف جغرافياً، وإذا كانت لديه خشية من شيء ما فهي في تجنبه الاصطام بمركز القراراالقوي في السياسة والدين والمجتمع، ولعلنا لا نجده فاعلاً في الاروقة تلك، إنما مكتفياً بوجوده على هامشها، متطلعاً للحظة خلاصه، عبرالحضور والتخفي، اللعبة التي يحسنها حسب .
قد لا يكون الرأي هذا مطلقاً إلا بالقدر الذي نعرفه عنه، وربما شاب الصورة هذه شيء ما، بسبب المنقلب الاجتماعي، الذي حدث بعد سنوات النفط والميناء، لكنَّ المدينة تكشف لنا في كل سانحةٍ عن سرٍّ من أسرارها، في لعبة الحضور والتخفي تلك. ففي واحدة من الليالي الاخيرة لمعرض الكتاب، وفي حفل فرقة(عراجين البصرة) المختصة بالغناء العراقي القديم، (غناء المقام) وفي قاعة المسرح الكبيرة، حيث قدمت الفرقة بعضاً من الاغاني البغدادية والبصرية والموصلية، رأيتُ الاسرة البصرية حاضرة القاعة، متناغمة مع ما يُنشد ويسمع، في خلق واحتشام رفيعين، وفي احترام مكنون للآخر، وسلوك حضري، ينمُّ عن سابقة كانت لها، كان هناك سعي باتجاه معاضدة ما يدور على المسرح، باصغاء ومشاركة وتفاعل، وبما ينذر بانه سيقلب الطاولة على الوحوش والطائفيين.
كانت الأجسادُ تتمايل طرباً، منسجمةً مع الموسيقى، والصوت الشجيُّ لقارئ المقام يستحضر النخل والنهر و(ماضي الايام الاتية) والاكف تُشيرُ وترتفع وتصفق، مشاركةً الايقاع بشجنه الجميل. ربما كنا، نحن الاجداد، مَنْ استحضرت أزمنتهم الاغاني التراثيةُ تلك، وقد استدعت سلالمها في الروح، أو أنها كانت لعبة أخرى من العاب الحضور والتخفي، التي عُرف البصريُّ بها، إلا أنَّ الجيل الجديد هو من ملأ القاعة، أولادنا وأحفادنا، الذين تسربت الموسيقى الى أرواحهم أيضاً. نحن بحاجة الى توقف أمام المشهد الجديد، وربما أدرك كلُّ ذي لبٍّ، متشدد، ومتأسلم، ومتحزب متطرف من أرباب الطوائف وتجار الحروب المقدسة بأنَّ فعل الموسيقى وعموم الفنون وتعاطيها بشكل واسع إنما يشكل هزيمة أكيدة لهم.
ورأيت فيما رأيت صبية بريبعها الخامس عشر، صحبة شقيقات لها، كن اتخذن من مقاعد أربعة مهاوي لأجسادهن، كلهن جميلات جميلات، إلا هي فقد فاقت الجمال معنى وطفولة، وانفردت عنهن ببشرة بيضاء تفارطتها صهبةٌ وحمرةٌ، فطغى نمش، هو مثل رذاذ عطري، لم تتمكن من ترويض طفولتها بعد، إلا أنها ظلت تغالبها بإيماءة من يدها، ثم أنها راحت تداعبُ شعراً جثلاً عكلاً احمرا، فينهمرُ مرسلاً مالئاً القاعة نبيذاً وسكراً، فتحار أعينٌ، وتشرأبُّ اعناقٌ، وتنقلب دنى..يا إلاهي، إجعل المدينة آمنة من أجلها