TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: ذيل الطاووس

باليت المدى: ذيل الطاووس

نشر في: 31 أكتوبر, 2021: 11:02 م

 ستار كاووش

التغيير الذي يصيب بناء الشخصية والثقافة والنظرة العامة للحياة، هو بإعتقادي أهم وأعظم كنز يمكن أن يحصل عليه الانسان، هذا الانسان الذي إبتكر السفر وتعلم الترجمات وتبادَلَ المعارف وطوَّرَ العلوم وإكتشف الأراضي والبحار البعيدة، ومع كل وطأة قدم جديدة تزداد المعرفة،

ومع كل نظرة مُبتَكَرة يتسع الأفق، وصحبة كل مشاركة تضاء الفنارات البعيدة التي تُقَرِّب المسافات بين الناس. ومثل الكثيرين، حدثت لي تغيرات عديدة بعد أن عبرتُ حدود بلدي، ووجدتُ أشياء كثيرة مختلفة عما كنتُ أعرفه، وتَبَدَّلَتْ عندي مفاهيم كانت تبدو مسلمات طبيعية ثابتة لا يغيرها الزمن.

حملتُ معي الكثير من التساؤلات حول هذا العالم مترامي الأطراف الذي لم أكن قد عرفتُهُ وعرفتُ ماهيته الحقيقية جيداً، هذا العالم الجميل والمتنوع الذي إنفتح أمامي فجأة مثل ذيل طاووس. وكان تساؤلي الأول هو، كيف سأتعلم لغة البلد الذي وطأته قدماي (ولم أعرف بأن البلدان ستتغير واللغات أيضاً)، سرتُ في الدروب والمنعطفات وتجولت في الغابات ورقصت تحت المطر مثل أبطال الروايات، تذكرتُ وطني وأنا أسير بين ثلوج كييف وغابات هولندا ومقاهي باريس ومتاحف العالم، ركلتُ الكثير من الأحجار كي أرسم لوحة تُعَلَّقُ في معرض هنا أو هناك، غَفَوتُ في القطارات وتهتُ في المحطات وتجولتُ بدراجتي على حافة البحر. نمتُ في أكياس النوم وسط مزارع لا أعرف أصحابها، ورفعت كؤوساً غريبة الأشكال والمذاقات في حانات لم يخطر في ذهني بأني سأشاهد مثلها يوماً، وشاركت موائد كثيرة لغرباء لا أعرفهم، تعلمتُ لغات جديدة وجميلة (تأكدتُ من خلالها أيضاً، كيف أن لغتنا العربية لغة ساحرة ومذهلة)، تحدثتُ في إفتتاحات المعارض عن لوحاتي ووطني العراق، تعلمتُ مهارات مختلفة، كبرتُ في العمر وكبرت معي أحلاماً جديدة، عانيتُ كثيراً وفرحتُ أكثر، جعتُ أياماً وشبعتُ سنوات، راقبتُ فلاحي الحليب وهم يبدؤون يومهم بفرح غامر حيث تتراقص الأبقار عند خروجها الى المزارع، وتأملتُ بحارة روتردام الشجعان الذين لوَّحت الشمس وجوههم الحمراء وهم يرفعون صواري السفن التي تجوب بحر الشمال. إكتشفتُ ان الأسبوع لا يبدأ بيوم السبت كما كنتُ أحسب، بل أن يوم الأثنين هو أول أيام الاسبوع في أكثر دول العالم، وما تعلمته إكثر هو فرديتي العالية وثقتي الواعية بنفسي، كذلك ثقتي العظيمة بالناس، هذه الثقة التي لا حدود لها. فغالبية الناس في هذا العالم يحملون الكثير من اللطف والمودة، وحتى سيئي الصيت والسمعة رأيتُ بداخلهم زوايا مضيئة بالانسانية والعطف، مع ذلك فالحياة لا تخلو من مواقف الصَدِّ والعنصرية، وأيضاً التعالي الفارغ، لكني مضيتُ في طريقي كأي صبي بغدادي يحب الرسم والحياة والبنات الحلوات، صبي حملَ معه بعض العادات والتفاصيل التي عرفها وتعوَّدَ عليها في العراق ومزجها مع العادات والتفاصيل التي تعلمها في الغربة لتصبح مثل سبيكة لامعة تضيء له طريقه.

أدركتُ أن الظنون السيئة تأتي في الغالب من الأشخاص الذين لم يعيشوا حكايتي ولم يمروا بتجربتي، كذلك تأتي الأحكام الجاهزة من الاشخاص الذين يضعون سدود الوهم أمام كل حوار عقلاني، بحجة الحلال والحرام والجنة والنار دون تمحيص أو تفكير منطقي، لذا أتجنبُ هؤلاء قدر المستطاع حتى لا يجرجروني عنوة نحو الجنة التي يعرفونها، لأني ببساطة منشغل بهذه الحياة التي أعرفها، الحياة التي أدركتُ من خلال رحلتها بأننا -رغم كل فضائلنا- لسنا أفضل من باقي المجتمعات ولا أذكى ولا أكثر كرماً ولطفاً، فهذه خرافة أتمنى أن لا نغالي بتصديقها. فقد عرفتُ مكانة الناس والبلدان من خلال ما قدموه لأنفسهم وللبشرية، عرفتُ مكانة الفن عند الشعوب حين وجدتُ ثمانمائة متحف في بلد صغير مثل هولندا، وفهمت معنى البناء حين لقيتُ ألف جسر وقنطرة في أمستردام وحدها، وإطلعتُ على قيمة بيكاسو الذي غيَّرَ تاريخ الرسم وأنا أجوب أروقة متاحفه، وتحسست عظمة غاودي وأنا أقف أمام عمارته التي غطى بها كل مدينة برشلونة، وعرفتُ أن الانجازات الكبيرة وصناعة تاريخ مشرق لا يأتي بالركون الى الكنائس والمساجد، بل بالعمل والتفكير والحرية والإنفتاح. ومثلما أعرف بأننا أول من إبتكر الكتابة وأقام الحضارة والفن قبل آلاف السنوات، فأنا أعرف أيضاً -مع كل الأسف- بأننا الآن لا نستطيع صناعة ألوان صالحة للرسم ولا حتى فرشاة أسنان جيدة.

التَغَيُّر، شيء أساسي وثمين في حياة الانسان وهو لا يتعارض مع حبك لوطنك، فكل الأشياء في الحياة والطبيعة تتبدل أيضاً، حتى الحجر القاسي والصلب تصيبه عوامل التعرية والحت. لذا يمكنني القول بأني حين خرجتُ للعالم، وجدتُ نفسي مثل ضفدع كان يعيش منعزلاً في بركة صغيرة، وحين نَطَّ منها الى الخارج وجد أنواعاً متعددة وكبيرة من البرك، مليئة بمياه عذبة وضفادع مختلفة ومتعددة الأصول والمذاهب، وهي لطيفة وجميلة… وفوق هذا فأن نقيقها كان أقل صخباً، عندها أدركتُ أن قياساتي السابقة لم تكن كلها صحيحة، وإنتبهتُ لمدى تأخري برؤية وفهم هذا العالم البسيط والحاني والواسع والجميل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

العمودالثامن: الحرب على الكفاءة

 علي حسين منذ ان ظهرت الديمقراطية التوافقية في بلاد الرافدين ،والمواطنونالعراقيون يبحثون عن مسؤول مختلف يمنحونه ثقتهم، وهم مطمئنون ، رغم أنهم يدركون أنّ معظم السياسيين ومعهم المسؤولين يتعاملون مع المناصب على أنها...
علي حسين

قناطر: ليلُ العشَّار الطويل

طالب عبد العزيز يحلَّ الليلُ باكراً في أزقّة العشَّار، أزقته القصيرة والضيقة، التي تلتفُّ عليه من حدود شبه جزيرة الداكير الى ساحة أم البروم، يحدث ذلك منذ سنوات الحرب مع إيران، يوم كانت القذائفُ...
طالب عبد العزيز

محاسبة نتنياهو وغالانت أمام محكمة الجنايات الدولية اختبار لمصداقية المجتمع الدولي

د. أحمد عبد الرزاق شكارة يوم عظيم انتصاراللعدل عبارة تنم عن وصف واضح مركز ساقه الاستاذ المحامي الفلسطيني راجي صوراني عن طبيعة الدور الايجابي المؤثر للمحكمة الجنائية الدولية متمثلا بإصدار مذكرتي القاء القبض تخص...
د. أحمد عبد الرزاق شكارة

الاندماج في العراق؟

أحمد القاسمي عندما نسمع بمصطلح الاندماج يخطر بأذهاننا دمج الأجانب المقيمين في بلد ما. فاستخدام هذا المصطلح بات شائعا منذ بضعة عقود في الغرب ويُستخدَم غالبا عند الحديث عن جهود الدولة أو مؤسسات المجتمع...
أحمد القاسمي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram