علي حسين
هل يمكن أن نتخيّل عراقاً لم يظهر فيه محمد مكية، والجواهري وغائب طعمة فرمان والسياب وزها حديد وجواد سليم وعلي الوردي ورفعت الجادرجي وناظم الغزالي ومحمد رضا الشبيبي والأب الكرملي، وكوركيس عواد وساسون حسقيل؟،
أو صاحبة الصوت الباسم لميعة عباس عمارة، والمعماريان قحطان وهشام المدفعي اسماء منحتنا الفرح ودهشة المعرفة، وبعضها جعل لنا الحياة ممتعة..لكنك يمكن ان تتخيل عراقا يهرب منه مئات الشباب طلبا للامان والعيش الكريم ويموتون على حدود بيلاروسيا ، تاركين البلاد المؤمنة تواصل معركة الصواريخ والطائرات المسيرة .
بالأمس كنت أقرأ في سيرة المعماري قحطان المدفعي الذي رحل عن عالمنا قبل أيام ، لأجد أن الراحل الكبير لم يكن شاعراً برغم محاولاته القليلة وعشقه لكتابات "أبو نواس" وغرامه بشخصية المتنبي، لكن أعماله نوع متقدم من الشعر والنثر، كل بناء قصيدة، كل انحناءة حجر قافية لبيت شعر مميز، ظل يعزف لمدينته عزفاً منفرداً على الفن وعلى الحياة. عاش في قلب بغداد وأزقتها، تسحره بفوضاها ويومياتها وسرعة تقلباتها من حال إلى حال، كأنها مفكرة أراد أن يكتب على حجارتها أحوال هذه البلاد. وفي الوقت الذي جاء فيه ساستنا "المؤمنين" رافعين شعارات الحرية والمساواة والعدل والقانون فوزّعوا ظلمهم وجبروتهم وغطرستهم على الناس بالتساوي فيما وزّعوا ثروات البلاد بين الأهل والأصحاب والأحباب، كان هناك رجل ينظر بعين الأسى لما حدث لمحبوبته بغداد.
لا يريد ساستنا ان يتوقف الخراب الذي يواصل صعوده بنجاح ، قتلت الناس على هوياتها، من غير أي ذنب، وشُرّد الملايين، ونُهبت المليارات، لكننا ظللنا نخرج كل أربع سنوات لننتخب "جماعتنا" ووصل بنا الأمر حدّ أن نسكت حين خرج علينا شيخ معمم ليقول بلا حياء: "خلي يبوكون، خلي البلاد تخرب، مادام ساستنا يحافظون على المذهب"!!.. وحين قال محمود المشهداني بالحرف الواحد: "لقد سحقنا التيار المدني وسيظل تابعاً للتيار الديني إلى أمد بعيد"، لم يخرج عليه أحد ويطالبه بأن يعود ثانية إلى عيادة الطبيب النفسي. الذين حكموا بالخراب على العراق وأقاموا دولة الفساد وسدّوا كل الأبواب والنوافذ أمام المستقبل، والذين طاردوا المتظاهرين الشباب في الشوارع والساحات، والذين قالوا إن هذا الشعب مجموعة رعاع ومكانهم القبر، والذين هرّبوا المليارات، تصدّروا المشهد السياسي بفضل أصواتنا جميعاً، نحن الذين جعلنا منهم أثرى أثرياء الكرة الأرضية، وجعلوا منا أقواماً كسيحة وفقيرة وعاجزة، تتلفت حولها، تتوجس من جارها، وتخشى مصافحة الآخرين لأنهم لا ينتمون إلى نفس الطائفة .
يرحل قحطان المدفعي، لكن اعماله ستظل خالدة، فيما ستظل هذه البلاد تعاني من الأدعياء، والقافزون فوق سطح التغيير بمنتهى الخفّة .