حيدر المحسن
- 1 -
أحسن من كتب في هذا المبحث من الأقدمين هو الإمام عبد القاهر الجرجاني: «كما أن الصّفة إذا لم تأتِك مصرّحا بذكرها، مكشوفا وجهها، ولكن مدلولا عليها بغيرها، كان أفخم لشأنها وألطف لمكانها”، ومعنى هذا كلما بعدت الشقّة بين حقيقة الشيء،
وصورته في الوصف، كان ذلك أكثر صدقا في عالم الفنّ. الرأي الثاني لقُدامة بن جعفر، وفيه أن الصفة تكون بين شيئين متشابهين في الطّبيعة. قال: “فأحسن التشبيه هو ما وقع بين شيئين، اشتراكهما في الصّفات أكثر من انفرادهما حتى يدني بهما إلى حال الاتحاد». كَثُر أنصار قدامة في ذلك الزمان، ورجحت رؤية الإمام الجرجاني في ميزان النّقد المعاصر، فجلاء الصورة الفنية يتبع نوع التّخييل الذي تطبعه في الذّهن، وهذا لا ينشأ عندما تكون الصفة والموصوف قريبين من بعضهما، وما يقال عن الشعر يصحّ تناوله في عالم النثر، والقول الفصل في الأخير يعود إلى نوع الصياغة المستعملة، كلما ازدادت عناية الكاتب بها، تبلور فنّه أكثر، وازدادت حيويّته إلى الدرجة التي يتفوّق بها، من ناحية الوجود، على الواقع. فؤاد التكرلي: “الشخصيات الروائية أكثر حقيقة من الأشخاص في الواقع”.
أخطر ما يُحيط بالوصف عندما يأتي مقلّدا لما يتداوله العامّة، أي حين يكون جزءاً من كلام الشارع، إن صحّ التعبير.
((حين بلغ «كوشين» سنّ التعميد اختير مقدما في الصلاة. كانت أمه في ذلك اليوم جزيرة من السعادة، محاطة بالتهنئات، تتخايل كتمثال نصفي، تتبدى بصدرها الضّخم، وبين نهديها يتدلّى صليب ذهبيّ وسلاسل لامعة ترشح زهوا باطلا -مثل الدّيك الرّوميّ-)).
في هذا المقطع من قصة الإسباني اجناثيو الديكوا لدينا ثلاثة تشبيهات: جزيرة من السعادة، وتمثال نصفيّ، وديك روميّ. الأُوليَان رائعان، ووصف المرأة بأنها تختال مثل ديك روميّ يستعمله العامّة في كلامهم، وليس فيه من التأليف الأدبيّ شيء.
يصوّر لورانس داريل في رباعية الإسكندرية إحدى نسائه، وكان يتحدث عن أول ليلة حبّ لها: “كانت دافئة كتمثال من عجائن طازجة خارجة من الفرن لتوّها”. الصّورة عاميّة، ولا دخل للخيال والفنّ فيها. تقليد كلام الناس إذن في الطرقات والمقاهي يضعف جهد الوصّاف، وفي المقابل نلاحظ مدى إصابة لامبيدوزا في عمله: «كان هزيل الجسم ولكن ارتصاصَ الملابس عليه أعطاه الشكل التكعيبي لراهبة منتفخة بسبع تنانير داخلية”. إننا أمام لوحة تكعيبية سبقت زمن بيكاسو بحوالي قرن، ومن يتأمل قصة “الملاعق” لمحمود عبد الوهاب يكتشف فيه رسّاما فذا، وقاصّا يجيد تقنيات في فن الوصف لا تتأتى إلا لمن آمن بأن القصة هي وثيقة إبداعية في اللّغة والتقنية والأسلوب.
يعمد بعض الكتّاب إلى نوع غريب من الوصف، ومثال على ذلك التشبيه الذي ذكرته لصادق هدايت في ما تقدّم، ولدينا بالإضافة إلى ذلك ولع القاصّ محمد الكاظم بالمكائن في التّشبيه: “دار عقلي مثل خلّاط عصير”، أو أنه يصف الغضون على جبهة الأم ب”آثار سيارة ثقيلة تسير على أرض موحلة”. حصل الكاظم على جائزة الإبداع العراقي عن مجموعته القصصيّة “لا تقولي لأمي إن مير لم يصل”. هنالك نعوت نقرَأها بسهولة وننساها بسرعة، وليس منها وصفه لسقوط الجثث فوق بعضها بعضا بأن لها صوتا “يشبه ضرب الأكف على الصدور في لطمية يقرأها رادود مبتدئ”.
يمكننا عدُّ الوصف أحد الدّلائل على قدرة الكاتب على الخوض في بحر الفنّ. في “مدينة النّحاس” يقول فوزي كريم عن امرأة: «رأيت الوجه الشّاحب الجميل، وجه السيّدة الملطّخ بالأصباغ، يبدو، مع عنف رائحة الألوان والبشرة المعروقة، كما لو كان لعبة أطفال متّسخة، أو كرة مطّاط مدعوكة بفاكهة فاسدة». كان الأولى بالكاتب الاكتفاء بالتّعبير الأول، فما علاقة كرة المطّاط المتسخة بوجه المرأة الملطّخ بالأصباغ؟
ركاكة الوصف، تدلّ على ضعف وهشاشة السّرد في القصة...
(يتبع...)