لطفية الدليمي
مامدى خطورة التقنيات الفائقة ؟
قد يبدو الحديث عن متفرّدة تقنية بحثاً نظرياً في مستقبل بعيد غير منظور ؛ لكن أحسبُ أنّ تقديم مثال راهن لمدى الخطر الذي تنطوي عليه تقنيات الذكاء الإصطناعي سيكون أمراً مفيداً لتقريب الصورة المستقبلية انطلاقاً من واقع راهن .
يعرفُ كلّ من له شيء من معرفة أولية بالذكاء الإصطناعي أنّ تطوير الخوارزميات الخاصة بنظم الذكاء الإصطناعي إنما تحصلُ بطريقتين : تطوير برامج حاسوبية ( سوفتوير ) من قبل المبرمجين ، أو الإستفادة من البيانات الكبيرة المستحصلة من التطبيقات الشائعة ( فيسبوك على سبيل المثال ) لغرض تطوير خوارزميات تكيفُ نفسها تبعاً للمؤثرات السائدة . هنا سنكون بمواجهة معضلة الإنحياز Bias الذي قد يتخذ أشكالاً متعدّدة : إنحياز لعرق أو دين أو لون بشرة أو خلفية إجتماعية أو سياسية أو إقتصادية ، وقد يقود هذا الإنحياز الناجم عن تأثير البيانات الكبيرة إلى إشكاليات مؤذية تمثلُ تحديات للمنظومة القانونية السائدة وحقوق الإنسان ، وأعتقدُ أنّ كلّ من تابع البرنامج الوثائقي المسمّى الإنحياز المشفّر Coded Bias على شبكة نتفلكس سيتعلّم الكثير عن مثل هذه الإشكاليات المؤذية .
لنتصوّر الآن كيف سيكون عليه الحال عندما يتضاعف حجم البيانات الكبيرة آلاف المرات ( وربما ملايين أو مليارات المرات . لاأحد يعرف اليوم ) ، وصارت هذه البيانات مخزّنة في آلة فائقة الذكاء تجاوزت مرحلة الذكاء الإصطناعي العام وولجت طور الذكاء الإصطناعي الفائق للذكاء البشري ؟ هل نمتلك القدرة على تخيّل حجم التحيّز الذي قد تلجأ إليه الآلة ؛ إذ قد تعتبر الآلة أنّ الآلات مثيلاتها يجب أن يكون لها حقوق أعلى من حقوق الكائن البشري ، أو قد تحكم على فئة من الناس لها خصائص بيولوجية محدّدة بالإعدام ؟ ماالعمل حينئذ ؟ هذه مشاهد من سيناريو حقيقي وليس تجوالاً ذهنياً في مملكة خيالية منعزلة .
ديستوبيا المستقبل التقني
ليس ثمّة من إجماعٍ أو حتى درجة ما من التوافق البشري حول المتفردة التقنية الخاصة بالذكاء الإصطناعي ، والإختلافات شاسعة كما تعكسها التساؤلات التالية : هل يمكن أن تحصلَ هذه المتفرّدة في المقام الأوّل ؟ ولو تحقّقت فمتى ؟ وهل ستقود البشرية نحو الأفضل أم الأسوأ ؟
يجادلُ الفريق المقتنع بقدوم المتفرّدة بأنّ التطوّرات الحثيثة في الذكاء الإصطناعي كفيلةٌ بجعل المتفرّدة أمراً لامهرب منه ، ويرحّبُ الكثير من أعضاء هذا الفريق بقدوم المتفرّدة ويرى فيها حلولاً ممكنة للمعضلات العنيدة التي تواجه البشرية : الحرب ، المرض ، المجاعة ، الضجر ، بل وحتى موت البشر . في المقابل يتنبّأ أعضاء آخرون في هذا الفريق بأنّ مَقْدَمَ هذه المتفردة سيكون إيذاناً بنهاية البشرية ( أو الحياة المتحضّرة التي نعرفها ) . أشاع الفيزيائي الراحل ستيفن هوكنغ ( بالإشتراك مع علماء آخرين منهم ستوارت راسل(1) Stuart Russell مؤلف كتاب مرجعي في الذكاء الإصطناعي سأورده في قائمة المراجع الإضافية ) موجة من الذعر العالمي عام 2014 عندما نشر إعلاناً موجزاً (2) تناولته الصحافة العالمية ووسائل الإعلام ذكر فيه أنّ إنكار تهديد الذكاء الإصطناعي سيكون " أسوأ الأخطاء التي أرتكبتها البشرية في كلّ تأريخها " .
في المقابل ثمة فريقٌ من المتشكّكين بقدوم المتفردة التقنية الخاصة بالذكاء الإصطناعي ، وهؤلاء لايتوقّعون حصول المتفرّدة ، ويوقنون يقيناً واثقاً بعدم حصولها في المدى المنظور ، وهم وإن كانوا مقتنعين بأنّ الذكاء الإصطناعي مجلبةٌ للكثير من المخاطر التي يتوجّبُ القلق بشأنها ؛ لكنهم يرون أنّ تلك المخاطر لاترقى لمرتبة التهديدات الوجودية الخطيرة لمستقبل البشرية .
آلات أذكى مما يتخيله العقل البشري
مع أنّ فكرة الإنتقالة من الذكاء الإصطناعي العام إلى الذكاء الإصطناعي الفائق للذكاء البشري صارت موضوعة متداولة في الفضاء الثقافي الإعلامي العام ؛ لكنّها نشأت أواسط القرن العشرين . كان الآباء المؤسسون لتلك الفكرة هم : جاك غود(3) Jack Good ( الذي عمل زميلاً لآلان تورنغ في بليتشلي بارك ضمن الجهد الحكومي البريطاني لكسر شفرة إينيغما الألمانية في الحرب العالمية الثانية ) ، فيرنر فينغ(4) Vernor Vinge ، راي كيرزويل(5) . من المثير في هذا الشأن أنّ تورنغ ذاته رأى أنّ الآلات ستكون لها السيطرة والغَلَبَة على الإنسان في نهاية المطاف ؛ لكنه لم يعزّز رؤيته بمباحث معمّقة!
تنبّأ غود عام 1965 بآلة فائقة الذكاء ستكون قادرة على تجاوز كلّ الفعاليات الذهنية لأي إنسان على وجه الأرض بصرف النظر عن مدى ذكائه ، وأضاف غود لرؤيته تلك بأنّ مثل تلك الآلة ستقودُ إلى حالة من تفجّر غير مسبوق في الذكاء بسبب قدرتها على تصميم آلات أكثر ذكاءً منها . كانت مسحةٌ من الحس التفاؤلي المفرط هي التي طبعت رؤية غود ؛ إذ رأى بأنّ الآلة الأولى فائقة الذكاء ستكون الإختراع الأخير الذي ينهض بعبئه البشر لأنّ الآلة ستتكفّلُ بتطوير نسخٍ أفضل منها ؛ لكن حتى هذه التفاؤلية المفرطة ( اليوتوبية ) لم تمنع غود من أن يجعل رؤيته مشروطة : أن تبقى الآلة منصاعة للبشر ، وأن تخبرهم دوماً كيف يمكنُ للبشر أن يجعلوها تحت سيطرتهم . لم يحافظ غود على رؤيته التفاؤلية هذه ؛ فقد صرّح لاحقاً أنّ الآلات فائقة الذكاء ستقودُ البشرية إلى حتفها في آخر الأمر .
بعد قرابة الربع قرن من رؤية غود أشاع فينغ مصطلح " المتفرّدة " في سياق شبيه بما فعله جون فون نيومان(6) John von Neumann عام 1958 . تنبّأ فينغ بقدوم " المتفرّدة التقنية " التي ستنهار عندها كلّ التنبؤات الأخرى بكيفية شبيهة بما يحصل لكلّ المعلومات عند أفق الحدث في ثقب أسود ! . رأى فينغ أنّ المتفرّدة يمكن التنبؤ بها وأنها حاصلة لامحالة ، وأنّ بين نتائجها العديدة المحتملة ( غير المعروفة وغير المؤكدة ) تدمير الحضارة أو حتى تدمير الجنس البشري تماماً .
إزاء هذا الطغيان التشاؤمي لكلّ من غود و فينغ ثمّة توجّه تفاؤلي يحبسُ الأنفاس نجده عند كيرزويل الذي لايكتفي بالتصريح عن قدوم أحداث تشعُّ بالتفاؤل بل يحدّد لها تواريخ محدّدة . يقترحُ كيرزويل في كتابه ذائع الصيت على مستوى العالم " المتفرّدة قريبة The Singularity is Near " أنّ الذكاء الإصطناعي العام سيتحقّقُ عام 2030 ، وفي عام 2045 سيكون بمستطاع الذكاء الإصطناعي الفائق للذكاء البشري – بالإشتراك مع تقنية المصغّرات " النانوتكنولوجي " والتقنية الحيوية – التغلّبُ على معضلات الحرب ، والمرض ، والفقر ، والموت . أضاف كيرزويل في كتابه أنّ البشرية عام 2045 " ستشهدُ تفجراً في الفنّ ، والعلم ، وكلّ أشكال المعرفة الأخرى إلى حدود كفيلة بجعل الحياة ذات معنى حقيقي " ، وأننا مع منتصف القرن ( العشرين ) سنعيشُ في بيئات واقع إفتراضي شاملة أكثر غنى وقدرة على إثراء الحياة بأشواط لايستطيعها العالم المادي تبعاً لإشتراطات القوانين الفيزيائية السائدة فيه .
الذكاء الاصطناعي أمر يستعصي على السيطرة
ليست تفاؤلية كيرزويل يوتوبية مطلقة . ثمّة كوابح تعترضُ طريق هذا المسار المفرط في تفاؤليته للمتفرّدة : هذا مايراه كيرزويل الذي يسجّلُ قائمة بالمخاطر الوجودية المتوقّعة التي تنبع في معظمها من التقنيات الحيوية المدعمة بالذكاء الإصطناعي . فيما يخصُّ الذكاء الإصطناعي بذاته يرى كيرزويل أنّ الذكاء ( البشري والإصطناعي ) أمرٌ يستعصي على كلّ أشكال السيطرة ، وأنّ من غير المجدي في يومنا هذا تطوير ستراتيجيات من شأنها ضمانُ أن ينطوي الذكاء الإصطناعي المستقبلي على مفردات خاصة بالأخلاقيات والقيم المطلوبة للبيئة البشرية آنذاك .
إعتمد كيرزويل في رؤيته المستقبلية للذكاء الإصطناعي على مقايسة موازية لقانون مور Moore's Law ( الذي وضعه منتصف ستينيات القرن العشرين غوردون مور Gordon Moore ، مؤسس شركة إنتل لاحقاً ) ، وفحوى هذا القانون أنّ القدرة الحاسوبية ( على صعيد المكوّنات الصلبة Hardware ) تتضاعف كلّ 18 شهراً على وجه التقريب . لايتبنى كيرزويل قانوناً مماثلاً لقانون مور ؛ لكنه يرى أنّ الذكاء الإصطناعي سيتطوّرُ بمعدلات سريعة تفوق كلّ توقّع ، وأنّ كلّ التوقعات المؤسسة على تجارب ماضوية سابقة تبقى تجارب فاقدة القيمة وينبغي إهمالها تماماً .
الهوامش
1 . ستوارت راسل Stuart Russell ( مولود عام 1962 ) : عالم حاسوب بريطاني يُعرَفُ عنه مساهماته الكبيرة في الذكاء الإصطناعي . يعمل حالياً أستاذاً لعلم الحاسوب في جامعة كاليفورنيا / بيركلي ، كما يعمل أستاذاً مشاركاً للجراحة العصبية في جامعة كاليفورنيا / سان فرانسيسكو . أسّس وقاد ( ولايزال يقود ) مركز الإنسان المتوافق مع الذكاء الإصطناعي في جامعة كاليفورنيا / بيركلي
2 . إشارة إلى مقالة كتبها ستيفن هوكنغ بالإشتراك مع العلماء فرانك ويلتشيك Frank Wilczek ، ماكس تغمارك Max Tegmark ، ستوارت راسل Stuart Russell . المقالة بعنوان " تجاوز حالة الرضا عن النفس بشأن الآلات فائقة الذكاء Transcending Complacency on Superintelligent Machines ، ونُشِرت في مطبوعة Huffington Post بتأريخ 19 نيسان ( أبريل ) 2014.
3 . جاك غود Jack Good ( 1916 – 2009 ) : رياضياتي ، وعالم تشفير ، وعالم حاسوب ، وعالم إحصاء ، وفيلسوف بريطاني عمل طويلاً في حقل الذكاء الإصطناعي وله مساهمات مميزة فيه .
4 . فيرنر فينغ Vernor Vinge ( مولود عام 1944 ) : كاتب رواية خيال علمي أمريكي ، وهو اليوم أستاذ جامعي متقاعد ، درّس الرياضيات وعلم الحاسوب في جامعة سان دييغو الحكومية . يعود له فضل إشاعة مفهوم ( المتفردة التقنية ) بين أوساط الجمهور العام .
5 . راي كيرزويل Ray Kurzweil ( مولود عام 1948 ) : مخترع وعالم مستقبليات أمريكي . عمل مديراً للبحث والتطوير في شركة غوغل ، وله العديد من الكتب التي تناول فيها موضوعات عديدة مثل : الصحة العامة وإطالة الحياة البيولوجية ، الذكاء الإصطناعي ، المتفردة التقنية ، الأنسنة الإنتقالية ، المستقبليات . يُعرَفُ عنه دفاعه الحثيث عن الحركات الداعمة للأنسنة الإنتقالية ومابعد الإنسانية ، فضلاً عن دعمه الثابت لتطوير تقنيات النانوتكنولوجي ، والروبوتات ، والتقنية الحيوية .
6 . جون فون نيومان John von Neumann ( 1903 – 1957 ) : عالم هنغاري الأصل أمريكي الجنسية ، مشتبك الإهتمامات Polymath ؛ فهو رياضياتي ، وفيزيائي ، وعالم حاسوب ، ومهندس ، وعالم إقتصاد ، ومختص بنظرية الألعاب ،،،،، إلخ . كانت له مساهمات حاسمة في تطوير الحاسوب والقنابل الذرية والهيدروجينية بالإضافة إلى تطوير سياسة الردع النووي . مزج الرياضيات الصرفة بالرياضيات التطبيقية في بحوثه . يوصف بأنه آخر سلالة الرياضياتيين العظام .