TOP

جريدة المدى > عام > الذكاء الإصطناعي: المستقبل: ديستوبيا التقنية الفائقة | القسم الثاني |

الذكاء الإصطناعي: المستقبل: ديستوبيا التقنية الفائقة | القسم الثاني |

نشر في: 23 نوفمبر, 2021: 10:09 م

 لطفية الدليمي

مامدى خطورة التقنيات الفائقة ؟

قد يبدو الحديث عن متفرّدة تقنية بحثاً نظرياً في مستقبل بعيد غير منظور ؛ لكن أحسبُ أنّ تقديم مثال راهن لمدى الخطر الذي تنطوي عليه تقنيات الذكاء الإصطناعي سيكون أمراً مفيداً لتقريب الصورة المستقبلية انطلاقاً من واقع راهن .

يعرفُ كلّ من له شيء من معرفة أولية بالذكاء الإصطناعي أنّ تطوير الخوارزميات الخاصة بنظم الذكاء الإصطناعي إنما تحصلُ بطريقتين : تطوير برامج حاسوبية ( سوفتوير ) من قبل المبرمجين ، أو الإستفادة من البيانات الكبيرة المستحصلة من التطبيقات الشائعة ( فيسبوك على سبيل المثال ) لغرض تطوير خوارزميات تكيفُ نفسها تبعاً للمؤثرات السائدة . هنا سنكون بمواجهة معضلة الإنحياز Bias الذي قد يتخذ أشكالاً متعدّدة : إنحياز لعرق أو دين أو لون بشرة أو خلفية إجتماعية أو سياسية أو إقتصادية ، وقد يقود هذا الإنحياز الناجم عن تأثير البيانات الكبيرة إلى إشكاليات مؤذية تمثلُ تحديات للمنظومة القانونية السائدة وحقوق الإنسان ، وأعتقدُ أنّ كلّ من تابع البرنامج الوثائقي المسمّى الإنحياز المشفّر Coded Bias على شبكة نتفلكس سيتعلّم الكثير عن مثل هذه الإشكاليات المؤذية .

لنتصوّر الآن كيف سيكون عليه الحال عندما يتضاعف حجم البيانات الكبيرة آلاف المرات ( وربما ملايين أو مليارات المرات . لاأحد يعرف اليوم ) ، وصارت هذه البيانات مخزّنة في آلة فائقة الذكاء تجاوزت مرحلة الذكاء الإصطناعي العام وولجت طور الذكاء الإصطناعي الفائق للذكاء البشري ؟ هل نمتلك القدرة على تخيّل حجم التحيّز الذي قد تلجأ إليه الآلة ؛ إذ قد تعتبر الآلة أنّ الآلات مثيلاتها يجب أن يكون لها حقوق أعلى من حقوق الكائن البشري ، أو قد تحكم على فئة من الناس لها خصائص بيولوجية محدّدة بالإعدام ؟ ماالعمل حينئذ ؟ هذه مشاهد من سيناريو حقيقي وليس تجوالاً ذهنياً في مملكة خيالية منعزلة .

ديستوبيا المستقبل التقني

ليس ثمّة من إجماعٍ أو حتى درجة ما من التوافق البشري حول المتفردة التقنية الخاصة بالذكاء الإصطناعي ، والإختلافات شاسعة كما تعكسها التساؤلات التالية : هل يمكن أن تحصلَ هذه المتفرّدة في المقام الأوّل ؟ ولو تحقّقت فمتى ؟ وهل ستقود البشرية نحو الأفضل أم الأسوأ ؟

يجادلُ الفريق المقتنع بقدوم المتفرّدة بأنّ التطوّرات الحثيثة في الذكاء الإصطناعي كفيلةٌ بجعل المتفرّدة أمراً لامهرب منه ، ويرحّبُ الكثير من أعضاء هذا الفريق بقدوم المتفرّدة ويرى فيها حلولاً ممكنة للمعضلات العنيدة التي تواجه البشرية : الحرب ، المرض ، المجاعة ، الضجر ، بل وحتى موت البشر . في المقابل يتنبّأ أعضاء آخرون في هذا الفريق بأنّ مَقْدَمَ هذه المتفردة سيكون إيذاناً بنهاية البشرية ( أو الحياة المتحضّرة التي نعرفها ) . أشاع الفيزيائي الراحل ستيفن هوكنغ ( بالإشتراك مع علماء آخرين منهم ستوارت راسل(1) Stuart Russell مؤلف كتاب مرجعي في الذكاء الإصطناعي سأورده في قائمة المراجع الإضافية ) موجة من الذعر العالمي عام 2014 عندما نشر إعلاناً موجزاً (2) تناولته الصحافة العالمية ووسائل الإعلام ذكر فيه أنّ إنكار تهديد الذكاء الإصطناعي سيكون " أسوأ الأخطاء التي أرتكبتها البشرية في كلّ تأريخها " .

في المقابل ثمة فريقٌ من المتشكّكين بقدوم المتفردة التقنية الخاصة بالذكاء الإصطناعي ، وهؤلاء لايتوقّعون حصول المتفرّدة ، ويوقنون يقيناً واثقاً بعدم حصولها في المدى المنظور ، وهم وإن كانوا مقتنعين بأنّ الذكاء الإصطناعي مجلبةٌ للكثير من المخاطر التي يتوجّبُ القلق بشأنها ؛ لكنهم يرون أنّ تلك المخاطر لاترقى لمرتبة التهديدات الوجودية الخطيرة لمستقبل البشرية .

 

آلات أذكى مما يتخيله العقل البشري

مع أنّ فكرة الإنتقالة من الذكاء الإصطناعي العام إلى الذكاء الإصطناعي الفائق للذكاء البشري صارت موضوعة متداولة في الفضاء الثقافي الإعلامي العام ؛ لكنّها نشأت أواسط القرن العشرين . كان الآباء المؤسسون لتلك الفكرة هم : جاك غود(3) Jack Good ( الذي عمل زميلاً لآلان تورنغ في بليتشلي بارك ضمن الجهد الحكومي البريطاني لكسر شفرة إينيغما الألمانية في الحرب العالمية الثانية ) ، فيرنر فينغ(4) Vernor Vinge ، راي كيرزويل(5) . من المثير في هذا الشأن أنّ تورنغ ذاته رأى أنّ الآلات ستكون لها السيطرة والغَلَبَة على الإنسان في نهاية المطاف ؛ لكنه لم يعزّز رؤيته بمباحث معمّقة!

تنبّأ غود عام 1965 بآلة فائقة الذكاء ستكون قادرة على تجاوز كلّ الفعاليات الذهنية لأي إنسان على وجه الأرض بصرف النظر عن مدى ذكائه ، وأضاف غود لرؤيته تلك بأنّ مثل تلك الآلة ستقودُ إلى حالة من تفجّر غير مسبوق في الذكاء بسبب قدرتها على تصميم آلات أكثر ذكاءً منها . كانت مسحةٌ من الحس التفاؤلي المفرط هي التي طبعت رؤية غود ؛ إذ رأى بأنّ الآلة الأولى فائقة الذكاء ستكون الإختراع الأخير الذي ينهض بعبئه البشر لأنّ الآلة ستتكفّلُ بتطوير نسخٍ أفضل منها ؛ لكن حتى هذه التفاؤلية المفرطة ( اليوتوبية ) لم تمنع غود من أن يجعل رؤيته مشروطة : أن تبقى الآلة منصاعة للبشر ، وأن تخبرهم دوماً كيف يمكنُ للبشر أن يجعلوها تحت سيطرتهم . لم يحافظ غود على رؤيته التفاؤلية هذه ؛ فقد صرّح لاحقاً أنّ الآلات فائقة الذكاء ستقودُ البشرية إلى حتفها في آخر الأمر .

بعد قرابة الربع قرن من رؤية غود أشاع فينغ مصطلح " المتفرّدة " في سياق شبيه بما فعله جون فون نيومان(6) John von Neumann عام 1958 . تنبّأ فينغ بقدوم " المتفرّدة التقنية " التي ستنهار عندها كلّ التنبؤات الأخرى بكيفية شبيهة بما يحصل لكلّ المعلومات عند أفق الحدث في ثقب أسود ! . رأى فينغ أنّ المتفرّدة يمكن التنبؤ بها وأنها حاصلة لامحالة ، وأنّ بين نتائجها العديدة المحتملة ( غير المعروفة وغير المؤكدة ) تدمير الحضارة أو حتى تدمير الجنس البشري تماماً .

إزاء هذا الطغيان التشاؤمي لكلّ من غود و فينغ ثمّة توجّه تفاؤلي يحبسُ الأنفاس نجده عند كيرزويل الذي لايكتفي بالتصريح عن قدوم أحداث تشعُّ بالتفاؤل بل يحدّد لها تواريخ محدّدة . يقترحُ كيرزويل في كتابه ذائع الصيت على مستوى العالم " المتفرّدة قريبة The Singularity is Near " أنّ الذكاء الإصطناعي العام سيتحقّقُ عام 2030 ، وفي عام 2045 سيكون بمستطاع الذكاء الإصطناعي الفائق للذكاء البشري – بالإشتراك مع تقنية المصغّرات " النانوتكنولوجي " والتقنية الحيوية – التغلّبُ على معضلات الحرب ، والمرض ، والفقر ، والموت . أضاف كيرزويل في كتابه أنّ البشرية عام 2045 " ستشهدُ تفجراً في الفنّ ، والعلم ، وكلّ أشكال المعرفة الأخرى إلى حدود كفيلة بجعل الحياة ذات معنى حقيقي " ، وأننا مع منتصف القرن ( العشرين ) سنعيشُ في بيئات واقع إفتراضي شاملة أكثر غنى وقدرة على إثراء الحياة بأشواط لايستطيعها العالم المادي تبعاً لإشتراطات القوانين الفيزيائية السائدة فيه .

الذكاء الاصطناعي أمر يستعصي على السيطرة

ليست تفاؤلية كيرزويل يوتوبية مطلقة . ثمّة كوابح تعترضُ طريق هذا المسار المفرط في تفاؤليته للمتفرّدة : هذا مايراه كيرزويل الذي يسجّلُ قائمة بالمخاطر الوجودية المتوقّعة التي تنبع في معظمها من التقنيات الحيوية المدعمة بالذكاء الإصطناعي . فيما يخصُّ الذكاء الإصطناعي بذاته يرى كيرزويل أنّ الذكاء ( البشري والإصطناعي ) أمرٌ يستعصي على كلّ أشكال السيطرة ، وأنّ من غير المجدي في يومنا هذا تطوير ستراتيجيات من شأنها ضمانُ أن ينطوي الذكاء الإصطناعي المستقبلي على مفردات خاصة بالأخلاقيات والقيم المطلوبة للبيئة البشرية آنذاك .

إعتمد كيرزويل في رؤيته المستقبلية للذكاء الإصطناعي على مقايسة موازية لقانون مور Moore's Law ( الذي وضعه منتصف ستينيات القرن العشرين غوردون مور Gordon Moore ، مؤسس شركة إنتل لاحقاً ) ، وفحوى هذا القانون أنّ القدرة الحاسوبية ( على صعيد المكوّنات الصلبة Hardware ) تتضاعف كلّ 18 شهراً على وجه التقريب . لايتبنى كيرزويل قانوناً مماثلاً لقانون مور ؛ لكنه يرى أنّ الذكاء الإصطناعي سيتطوّرُ بمعدلات سريعة تفوق كلّ توقّع ، وأنّ كلّ التوقعات المؤسسة على تجارب ماضوية سابقة تبقى تجارب فاقدة القيمة وينبغي إهمالها تماماً .

الهوامش

1 . ستوارت راسل Stuart Russell ( مولود عام 1962 ) : عالم حاسوب بريطاني يُعرَفُ عنه مساهماته الكبيرة في الذكاء الإصطناعي . يعمل حالياً أستاذاً لعلم الحاسوب في جامعة كاليفورنيا / بيركلي ، كما يعمل أستاذاً مشاركاً للجراحة العصبية في جامعة كاليفورنيا / سان فرانسيسكو . أسّس وقاد ( ولايزال يقود ) مركز الإنسان المتوافق مع الذكاء الإصطناعي في جامعة كاليفورنيا / بيركلي

2 . إشارة إلى مقالة كتبها ستيفن هوكنغ بالإشتراك مع العلماء فرانك ويلتشيك Frank Wilczek ، ماكس تغمارك Max Tegmark ، ستوارت راسل Stuart Russell . المقالة بعنوان " تجاوز حالة الرضا عن النفس بشأن الآلات فائقة الذكاء Transcending Complacency on Superintelligent Machines ، ونُشِرت في مطبوعة Huffington Post بتأريخ 19 نيسان ( أبريل ) 2014.

3 . جاك غود Jack Good ( 1916 – 2009 ) : رياضياتي ، وعالم تشفير ، وعالم حاسوب ، وعالم إحصاء ، وفيلسوف بريطاني عمل طويلاً في حقل الذكاء الإصطناعي وله مساهمات مميزة فيه .

4 . فيرنر فينغ Vernor Vinge ( مولود عام 1944 ) : كاتب رواية خيال علمي أمريكي ، وهو اليوم أستاذ جامعي متقاعد ، درّس الرياضيات وعلم الحاسوب في جامعة سان دييغو الحكومية . يعود له فضل إشاعة مفهوم ( المتفردة التقنية ) بين أوساط الجمهور العام .

5 . راي كيرزويل Ray Kurzweil ( مولود عام 1948 ) : مخترع وعالم مستقبليات أمريكي . عمل مديراً للبحث والتطوير في شركة غوغل ، وله العديد من الكتب التي تناول فيها موضوعات عديدة مثل : الصحة العامة وإطالة الحياة البيولوجية ، الذكاء الإصطناعي ، المتفردة التقنية ، الأنسنة الإنتقالية ، المستقبليات . يُعرَفُ عنه دفاعه الحثيث عن الحركات الداعمة للأنسنة الإنتقالية ومابعد الإنسانية ، فضلاً عن دعمه الثابت لتطوير تقنيات النانوتكنولوجي ، والروبوتات ، والتقنية الحيوية .

6 . جون فون نيومان John von Neumann ( 1903 – 1957 ) : عالم هنغاري الأصل أمريكي الجنسية ، مشتبك الإهتمامات Polymath ؛ فهو رياضياتي ، وفيزيائي ، وعالم حاسوب ، ومهندس ، وعالم إقتصاد ، ومختص بنظرية الألعاب ،،،،، إلخ . كانت له مساهمات حاسمة في تطوير الحاسوب والقنابل الذرية والهيدروجينية بالإضافة إلى تطوير سياسة الردع النووي . مزج الرياضيات الصرفة بالرياضيات التطبيقية في بحوثه . يوصف بأنه آخر سلالة الرياضياتيين العظام .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الأنواء الجوية: ارتفاع في درجات الحرارة الاسبوع الحالي

الكويت تنفي تدهور الحالة الصحية لسلمان الخالدي الذي تسلمته من العراق

ترامب: نريد 50% من ملكية تطبيق تيك توك

القوانين الجدلية على جدول أعمال البرلمان يوم غد الثلاثاء

هل أخطأ البرلمان بعدم حل نفسه مبكراً؟

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

مقالات ذات صلة

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو
عام

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو

علي بدرفي مدينة تتلألأ أنوارها كما لو أنها ترفض النوم، وفي زمن حيث كانت النجومية فيها تعني الخلود، ولدت واحدة من أغرب وأعنف قصص الحب التي عرفتها هوليوود. هناك، في المكاتب الفاخرة واستوديوهات السينما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram