فيصل لعيبي صاحي
سمعت إسمه من والدها خلال جلسة على المائدة ، ولكنها لم تعلم بأنه سيكون زوجها وحبيبها ورفيقها حتى آخرلحظة من حياته .
كان الوالد غاضباً من تصرفات النظام الملكي ورئيس وزرائه المخضرم نوري سعيد والإجراءات التي إتخذها بحق الوطنيين والديمقراطيين وحتى المستقلين الوطنيين . فجاء إسمه مع أسم والده كامل الجادرجي عرضاً إثناء الحديث ، هكذا سمعت بلقيس بإسمه اول مرة كما تقول في كتابها الشيِّق وبإسلوبها الرشيق والمليء بالمعارف والمعلومات والتوثيق الأمين لما جرى لأحد أبرز الوجوه المتنورة والطليعية في المجتمع العراقي خلال النصف الثاني من القرن العشرين والربع الأول من القرن الحالي. وهذه الامور قد لانستطيع كشف علاقاتها ببعضها من أول وهلة ، لكننا سندرك بعد فترة من الزمن الترتيب الدقيق الذي جرت به وكانها عملية حتمية، لها علاقة بالنظام الكوني الشامل أوبتجاذب النفوس دون وعي منها . فما علاقة هذا الحديث العابر للوالد بما جرى بعد ذلك و الذي صار حقيقة وأي حقيقة؟
تقول رفيقة درب حياة المعمار المميّز الراحل رفعة الجادرجي وزوجته الكاتبة بلقيس شرارة ، عُرِفَ رفعة منذ صغره بالإستقلالية في إتخاذ القرارات الخاصة به ولا يسمح لأحد بالتدخل في شؤونه، وكان والده يقدر فيه هذه الخصلة ويشجعه عليها وكان سلوكه مع اولاده الآخرين متشابها، فالأستاذ كامل الجادرجي الذي يعتبر عميد ورائد اللبرالية العراقية المتنورة والديمقراطية ، صاحب أفق رحب وكثير الإطلاع على تجارب الشعوب وصاحب نظرة تقدمية لحركة التاريخ وهو محام مرموق كذلك له مواقف وطنية مشهودة، عاني بسببها من العنت والسجون ، اصدر صحيفة صدى الأهالي في الأربعينات و لكنها أغلقت من قبل السلطة الملكية و بعد تأسيس الحزب الوطني الديمقراطي الذي ترأسه مع نخبة من متنوري بغداد وغيرها من المناطق العراقية، أعيد ت فصدرت بإسم الأهالي فقط والتي صمم شعارها الفنان الخالد جواد سليم على شكل يد تمسك بشعلة الحرية ، لكن– الشعار - يرمز الى العامل والفلاح والمنجل والمطرقة والحرية وحمامة السلام بتخطيط واحد متواصل. كان الشعار يبدو كيد ترفع المشعل – مشعل الحرية – لكن المدقق له سيجد المطرقة تتكون من الأصبع الصغير وقاعدة المشعل السفلى والمنجل مع القاعدة وجناح الحمامة ، التي إمتزجت مع لهيب الشعلة وكانت الشعلة رمز الحرية والحمامة رمز السلام. كان والد الكاتبة بلقيس أديباً مرموقاً ومتنوراً، هوالأستاذ محمد شرارة أستاذ الأدب واللغة العربية في معهد المعلمين وصاحب ديوان ثقافي في بيته، يجتمع فيه نخبة من المبدعين العراقيين كل خميس للتداول في شؤون الأدب والشعر والأفكار الحديثة حول ضرورة تطوير الشعر العربي وتخليصه من قفص الوزن والقافية اللتان اثقلتا كاهله. وكان السياب ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وغيرهم من الوجوه البارزة والدائمة الحضور. وقد شجع بناته الثلاث : مريم وبلقيس وحياة ، على حضور مثل هذه الحلقات الأدبية وحضهن على المطالعة والدرس والتحصيل العلمي الضروري، فجبلن على المعارف والآداب والثقافة ولعبن دوراً مميزاً في الحياة الثقافية العراقية .
تذكر الكاتبة حول لقائها الأول برفعة، أنه عندما عاد الى بغداد، سأل د. سميرة بابان عن الفتيات التقدميات او المتنورات اللواتي تعرفهن ، فذكرت إسمها من بين الأسماء ، ومن جميل الصدف كذلك، أن صديق رفعة حميد عباس العزاوي، والذي تزوج بعد ذاك الفنانة الكبيرة وداد الأورفلي، كان قد قرر ان تكون بلقيس من حصة رفعة،عند عودته من الدراسة وإدعى لزملائه الذين كانوا من المعجبين ببلقيس وجمالها ويرغبون في التقرب إليها أو خطب ودها ، بأنه إبن خالتها وهي مخطوبة وعليهم الإبتعاد عنها ، كل هذا بعيداً عن علم بلقيس ورفعة، لكن القدر او الجاذبية الخفية كانت تلعب لعبتها، قبل ان يتعرفا على بعض ، فتم اللقاء في بيت سميرة بابان بعد ان طلبت منها صديقتها سميرة ان تراه وتتخذ الموقف المناسب أو تقرر بعد ذلك ، وكان رفعة قد سُحِرَ بإسم بلقيس ، كما تذكر في الكتاب ، وقد أعجبا ببعض وإنسجما منذ البداية ، وقد سالتهما في حوار مسجل تحتفظ به الأستاذة بلقيس حول كيفية التجاذب الذي حصل بينهما فقالت بلقيس : " انه يختلف عن بقية الأشخاص الذين اعرفهم ويملك ثقافة واسعة ومتحضر " ، اما الراحل المعمار الأستاذ رفعة فقد اجابني : " بأنها تعرف في الموسيقى وتملك ثقافة مناسبة وذكية في الدراسة وتتكلم لغة اجنبية وجميلة وهذا يكفي " . و الكاتبة تحكي في الكتاب نتفاً عن الجو العائلي لرفعة في بيت الأستاذ كامل الجادرجي الأب ،إذ تشير الى ان جدة رفعة ( ام كامل الجادرجي ) وعمته ( اخت كامل الجادرجي ) كانتا لا يحبان زوجة كامل الجادرجي ( أم رفعة ) و كانت علاقاتهما شبه مقطوعة تماما، بعدما حدثت عدة مشاكل بهذا الصدد و تقول كان والد رفعة ، كامل الجادرجي ، يمارس عادة الصمت في مثل هذه الحالة ولايتدخل في هذا الامر. مع ان الظلم كان يقع على زوجته ام رفعة . وانا أرى ان هذا الموقف غير مفهوم من جانبي ، خاصة عندما نراه كيف يوجه اولاده ويعلمهم وينصحهم، أي انه لم يتحدث مع امه ولا اخته حول ما يقومان به من سلوك لا يليق بهما ولم يقف مع زوجته في مثل هذا الجو الذي وتر العواطف والنفوس بسبب تعالي أخته وامه وإعتبارعائلة ام رفعة اقل منزلة إجتماعياً من عائلة الجادرجي. وحتى رفعة رغم ذكره لمثل هذه الأوضاع في كتابه عن والده ( صورة أب ) ، إلا انه لم يذكر تأثير هذا عليه شخصياً، فالجفوة التي بين جدته وعمته تجاه امه حتماً قد خلقت لديه نوع من التساؤل والغرابة، إضافة الى ان والده وعمه لا يلتقيان وعلاقتهما مقطوعة أيضاً!! واظن ان هذا الأمر قد اثر عليه وجعله منذ البداية يعتمد على نفسه ويتخذ نوعاً من الموقف تجاه بعض الأمور، رغم انه لم يصرح لنا به في كتاباته المختلفة إلا لماماً . كان البيت الذي عاش فيه رفعة يسير وفق نظام ثابت ولا يسمح لأحد بتغييره او خرقه. مثل تناول الطعام واوقاته ، وقد اخذ رفعة عن أبيه العديد من العادات الحميدة مثل حب المعرفة والبحث والتقصي وعدم تضييع الوقت بالترهات وغيرها. في طفولته وهو لم يبلغ بعد العاشرة من العمر ،جاءته آلة تصوير كهدية من والده كان لها الأثر الكبير في جعل الإبن يهتم بالتصوير وتوثيق الحياة الإجتماعية العراقية بصور مهمة – طبع بعضها بكتاب وصدر عن دار المدى قبل سنوات قليلة. كانت الكامرة عدته في سبر أغوار ما يحيط به ، وتؤكد المؤلفة ان رفعة كان يسخر منذ طفولته بالخرافات التي يرددها الصغار والكبارمعاً كالمخلوقات الخرافية مثل الطنطل الذي كان يخشاه الناس في تلك الأيام ويحسبون له ألف حساب. وتقول ان رفعة بدأ يقوم بالأعمال التي تخصة بنفسه، فلم يكن والده يتدخل فيها حتى لو كانت تحتاج الى مثل هذا التدخل أحياناً، فهو لم يرافقه سوى مرة واحدة عندما ذهب للتسجيل في المدرسة الإبتدائية وتركه بعد ذلك يدبر أموره بنفسه، فهذه الثقة والإستعداد الذاتي لها تؤشر بوضوح الى نوع الشخصية التي كان يتمتع بها الراحل الأستاذ رفعة الجادرجي منذ صغره. الكتاب مليئ بالمواقف والأحداث التي واجهها صاحب السيرة وتعامل معها بعقل هاديء ورصين ومن موقف عقلاني يتميز بالإتزان ، فلم يخرج عن طوره حتى في أشد حالات الضيق والتعب وحتى في إعتقاله في سبعينات القرن الماضي من قبل النظام الدكتاتوري السابق، الذي دام سنة وثمانية اشهر لم يفوت الفرصة بل إستغلها أفضل إستغلال، فلم يتذمر او يشكو بل كتب خلالها كتابين ومسودة كتاب ثالث على وشك الإنتهاء. و واجه المشكلة بطريقة إيجابية وشرع منذ البداية على تنفيذ خطته في القراءة والكتابة ، فقرأ اكثر من 150 كتاباً وبحثاً ومصدراً وخرج بكتابين جاهزين للطبع. قليل هم من يتصرف في مثل هذه الظروف الصعبة كما تصرف الأستاذ رفعة ، فشخصيته، شخصية إستثنائية وفريدة ، في محاسبة الذات وفهم الظروف والتعامل معها بروح إيجابية لا مثيل لها في مجتمعاتنا الإتكالية والخاملة والتي تنتظر المُخَلِّص كي ينقذها مما هي فيه. في الكتاب محطات عديدة ليس في نيتي تعدادها، لأن ذلك يفسد متعة قراءته ومتابعة فصوله المثيرة، فانا لا أكتب هذه المادة لشرح محتوياته، ولكني أدعو المهتمين بقراءة الكتاب، وإنما اكتبها فقط كتحية للمؤلفة التي رافقت المعمار الكبير لحظة بلحظة وكانت منذ البداية ساعده الأيمن في كل ما صدر له من مؤلفات وبحوث ونشاطات إبداعية. فأكثر من 65 عاما من الرفقة والإلفة والمحبة والتعاون والإنسجام ، أعطته مجالاً رحباً للتفكير بدون منغصات زوجية يحياها العديد من المتزوجين عادةً ، كانت الأستاذة بلقيس هي الروح الملهمة له وكان هو الروح الملهمة لها، فهي تذكر في احاديثها مع الآخرين كيف انها تعلمت منه الكثير مما كانت تجهله قبل التعرف عليه ،فبعد إطلاعها على عالم الأدب والشعر واللغة في دار أبيها ، كان رفعة قد ادخلها عالم الفن والفنانين الغريب عليها إذ كانوا يجتمعون في بيتهما دائماً ، وتبدأ النقاشات الحارة والجدل المستمر والحاد احياناً من اجل خلق حركة فنية عراقية لها صلة بالمكان ومتصلة بالعالم الحديث. كان فائق حسن وجواد سليم ومحمود صبري وغيرهم يتباحثون حول الطريقة المثلى، التي على الفنان ان يسير عليها لخلق مدرسة أو إتجاه مميز للفن العراقي المعاصر. وتذكر المؤلفة ان صراعات الفنانين تصل أحيانا الى الإحتدام والعصبية ، تؤدي الى تحطيم الأواني والحاجات القريبة منهم وربما الزعل ، فيترك مثلاً فائق حسن النقاش لينزوي بعيد على سلم الدار تاركاً الآخرين في نقاشات لا تنتهي او يخرج آخر دون ان يقول مع السلامة، لكنهم يعاودون السهر بعد أيام ويستمر الجدل والنقاش مرة أخرى. وقد كنت اتمنى ان تسهب الأستاذة بلقيس في الحديث عن تلك اللحظات النادرة والتي لن تتكرر، لتسلط الضوء عليها اكثر، خاصة وهي تجلس معهم وتساهم ربما في الأحاديث والنقاشات، لأن تلك الفترة ويا للأسف لم يجر توثيقها كما ينبغي ولا نملك عنها ما يشفي الغليل. ومما تذكره في الكتاب،هي اللوحة الحديثة الأولى في الفن العراقي الحديث وهي لوحة الفلاحة التي رسمها فائق وتؤكد ان البقية بما فيهم جواد بدأوا في انتاج أعمال فنية تنحو نحوها. وهذا شيء مهم جداً، لأننا نعتقد ان جواد هو صاحب هذه النقلة وليس فائق، ومن يدرس أعمال الفنانين في تلك الفترة سيجد أعمال فائق وجواد شديدة القرب من بعضها وحديثة الإسلوب وعراقية الروح والحس معاً .فقد كانا صنوين لا يفترقان وكلاهما يدفع بالآخر نحو التجديد والتطور والبحث الأصيل في اللوحة العراقية اللحديثة.
وفي الكتاب نجد هموم الأستاذ رفعة الفنية ترافق همومه الإجتماعية، فهو والفنان الراحل محمود صبري يلتقيان بأهمية دور الفن في المجتمع وضرورة ان يعكس الفنان تلك الهموم والمشاكل في أعماله كما انهما قد أثرا من خلال هذه الرؤية على مسار الحركة الفنية العراقية بوضوح فإنحاز الفنان العراقي منذ ذلك الوقت الى مجتمعه واخذ يعكس في الأعمال التي قدمها هموم الناس، فنجد المتعبين والمسحوقين والسجناء والشهداء والعمال العاطلين عن العمل والكسبة وحتى بيوت الدعارة قد شغلت الأعمال، عكس الفترة التي سبقتها، عندما كان هم الفنان وقتها هوان يقدم لوحة جميلة ومقبولة ويمكن تعليقها على الجدران دون ان تحمل أي مضمون إجتماعي او فكري وحتى سياسي، كما تجلى في اعمال الفنان محمود صبري وكذلك جواد سليم بشكل خاص.
أما ماعاناه الأستاذ رفعة في بحثه عن عمارة تناسب البيئة العراقية والمناخ فيها. وكيف كانت نظرته الجدلية في العمارة دليله الهادي في هذا المشوار، وكيف نجح في صياغة مفاهيم وحلول عملية لهذه الإشكاليات ودعمها بأعمال لا تزال شاخصة في بغداد وغيرها من المدن التي وصلت إليها إنجازاته. مثل القوس والنافذة والمجال العازل لحراة الشمس في بلاد مثل العراق التي تصل درجة الحرارة فيه الى 50 درجة مئوية ، فخففت أبنيته التي صممها من درجة الحرارة الواقعة على البناء، لكنها لم تقلل درجة الضوء المطلوب والضروري في نفس الوقت فاصبح للشباك ظل يبعد حرارة الشمس عن الغرفة ويكسر درجة دخولها إليها لكنه لا يقلل أيضاً من وصول الضوء الى الداخل كما عالج المادة المطلوبة فاكثر من إستخدام الطابوق المحلي وخلق جماليات غير معهودة في ترتيبه وتوزيعه بدل الكونكريت الذي اخذ يغزو العمارة والذي هيمن على فكر المعماريين الأخرين. و خالف أيضاً المعماريين العراقيين فيما تعودوه في العمارة، التي كانت ترى في النماذج الغربية على جمالها حلاً مناسباً للعمارة العراقية ، إذ أكد على المحلية العصرية وضرورة ان تكون العمارة لها علاقة بالمكان الذي تبنى عليه وحاجات المجتمع العراقي أو بالأحرى الإنسان العراقي وطريقة عيشة ، وليس نسخ تجارب الاخرين وزرعها في بيئات غير مناسبة لها ، فهناك امثلة عديدة في الكتاب على تلك المحاولات أتركها لقاريء الكتاب ليتمتع بها ويتعرف على الجهد الذي بذله الأستاذ رفعة في سبيل ذلك.
كان الصراع في خمسينات القرن الماضي مرتبطاً أيضاً في الخطط التي بدأت تظهر للعيانن من خلال مجلس الأعمار العراقي الذي رسم برنامجاً غنياً وحديثاً لما يجب أن يكون عليه العراق في السنوات اللاحقة، فجندت كل الطاقات العراقية في سباق محموم لتقديم أفضل ما لديها من إبداعات لهذه الغاية النبيلة . فالعراق وقتها قد تخطى مشاكل وعواقب الحرب الكونية وحصل على نسبة اعلى من عائدات النفط إضافة الى إنفتاح غير مسبوق على الكفاءات والخبرات الأجنبية في معظم المجالات وحضرت شخصيات عالمية في مجال العمارة للمساهمة في البناء وتم تأسيس معامل جديدة ودخلت المكننة في الزراعة وتوسع بناء المدارس وكثرت الكليات والمعاهد الإختصاصية وإنتشرت المستشفيات والمستوصفات ووصلت للقرى والأرياف،لكن القمع السياسي لم يتوقف ولم تتسع رقعة الديمقراطية وبقيت كما كانت عليه أثناء الحرب وظل العراق يعيش تحت الأحكام العرفية تقريباً حتى قيام ثورة 14 تموز عام 1958 وقيام الجمهورية بسقوط الملكية .
وفي الكتاب، نجد إهتمام المعمار رفعة بالمكننة والآلة ودورهما في العمارة المعاصرة وهي قضية جذرية في مجال البناء الواسع والعمومي، أي ان المكننة قد عزلت المعمار التقليدي عن دوره المعتاد، فلم يعد المعمار في حاجة الى مكان العمل ومشاهدة عملية التشييد والمساهمة فيه وإنما إقتصر دوره على رسم الخريطة وتحديد المواد والشكل العام للبناء ،بينما يقوم الآخرون بتنفيذ ما سطرته يداه. أي ان هناك إختصاصات جديدة ظهرت واخذت بعض مهام المعمار وعزلته عن الطريقة القديمة في التعامل مع البناء. على سبيل المثال كان النجار عندما يقطع الخشبة بيده فهو يعطيها شيء من روحه ،لكن المنشار الكهربائي أضبح يقوم بهذه المهمة دون حاجة لجهد النجار ولمسته الخاصة ولم يعد دوره اكثر من دفع الخشبة للمنشار ليقوم بتقطيعها بمفرده وبدقة اكثر من يد النجار بالذات . فإنفصال عمل المعماري عن مهنته الأصلية كبنّاء وأسطى، أضحت حقيقة واقعة لا مراء فيها ولا جدال وصارت من مقتضيات العصر وضرورات البناء العصري الحديث وقد سار الأستاذ رفعة على هذا المنوال في نشاطه المعماري وخلق مكتباً عراقياً للهندسة أصبح قدوةً للعديد من المكاتب الهندسية في العالم العربي وحصل على شهرة واسعة.
تتميز شخصية الأستاذ رفعة كما تكتب رفيقة دربه بلقيس شرارة، بسعة المعارف وتنوعها وتتبعه لما هو جديد في مجال الفكر والمعرفة والفنون. وقد قدم للمكتبة العراقية والعربية وحتى للمجتمعات الأجنبية فيما لو ترجمت مؤلفاته الى لغات تلك المجتمعات ، أفكاراً مهمة وأصيلة ، تبحث في الفنون والفلسفة الجمالية والإبداع . وتستخلص الكثير من القيم التي نحن في امس الحاجة لها، واظن ان كتب الأستاذ رفعة مهمة لطلاب معاهد الفنون الجميلة عندنا ولدارسي الهندسة المعمارية أضافة الى تاريخ الفن وعلم الجمال والفلسفة ومن حقه علينا ان تكون ضمن مناهج التدريس في المعاهد والمدارس الفنية .
ليس سهلاً الكتابة عن شخص قريب الى نفسك ومحب وعاشرته اكثر 65 عام أو إيفائه حقه في كتاب واحد، فاللحظات التي عشتها معه والمواقف والمنعطفات التي مررت بها وانت الى جانبه ، لايمكن وصفها بكلمات او عبارات مهما بلغت درجة بلاغتك وتبحرك في اللغة ، هناك احاسيس لا يمكن التعبير عنها وإنما تحسها داخلك ولا يمكنك البوح بها أيضاً لأنها ملكك وحدك ، كيف يمكنك أن تشرح الفرحة او الغصة والسعادة أو الحزن ، لمسة اليد والكف والعناق وقبلة الشفتين والمسح على الخد أوهمس الكلمات والأنفاس الملتهبة والأحضان والجلوس معاً وانتما تراقبان مغيب الشمس في يوم مليئ بالعمل والنشاط والفرح؟ فالرفقة في دروب الحياة والسير معها في أعماق نفس لا يمكن سبرها او الوصول لها ، لأنها ببساطة لا تخص غيرك. وبسبب خصوصيتها هذه يصعب الحديث عنها او البوح بها حتى من قبل أشعر الشعراء وأعظم الكتاب وابلغ البلغاء.
الكتاب صورة صادقة للوفاء والعرفان والمشاعر التي لا يمكن الكتابة عنها بكل أبعادها وهو سرد بالتفاصيل الضرورية لسيرة رائد من رواد التنوير والتحديث والإبداع.
شكراً سيدتي بلقيس شرارة على هذا السِفر الذي كشف لنا جوانب من حياتكما وحياة مجتمع كامل، كان مقبلاً على الحياة بنهم، وهو يلعق الان جراحاته بألم وحسرة.
جميع التعليقات 1
اياد منذر عباس
كاتب المقالة فنان متعمق رائع مؤلفة الكتاب باحثة كاتبة اصيلة الموضوع، انسان اعطى بذكاء عمق وتاريخه مشهود... فكان النانج... كتاب يثري المكتبة، والعلم المجتمعي... ياههههه... سعدت بالقراءة... ولم ارى الكتاب بعد....