TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: حراس مواريث ايليوت والجرجاني

قناديل: حراس مواريث ايليوت والجرجاني

نشر في: 4 ديسمبر, 2021: 10:35 م

 لطفية الدليمي

يوردُ الدكتور صلاح نيازي في سيرته الذاتية الجميلة ( غصنٌ مطعّمٌ في شجرة غريبة ) واقعة ذات دلالة عظيمة. يقول أنه في بداية رحلته في بلاد الضباب مرتحلاً من العراق بداية ستينيات القرن الماضي، حلّ – كما هي العادة السائدة – بين عائلة لندنية بعد أن استأجر غرفة لديها.

ذات صباح وبينما الجميع يتناولون فطورهم أن سألت صاحبة الدار الانكليزية نيازي عن خططه المستقبلية في بريطانيا؛ فأجابها في نبرة عالية وكلمات قتالية : سأحصلُ على الدكتوراه ، ثم سأفعل كذا وكذا وكذا ( أكسّر العالم على حدّ تعبير المصريين ) . يقول نيازي أنّ صاحبة الدار راحت تنظر في عيون زوجها وهي ذاهلة ، ولم يعرف نيازي السبب حينها ؛ لكنّه يعقّبُ فيقول : عرفتُ السبب بعد سنوات عديدة . أنتَ حتى تجد لنفسك موطئاً محترماً في هذا العالم ، وفي أي مجال كان ، لستَ في حاجة لمقاتلة العالم وكأنه عدوٌّ يسعى لتحطيمك . يكفي أن تتبع شغفك ، وأن تتكلّم قليلاً وتفعل أحسن مافي استطاعتك . لاأحد يتوقّعُ منك أن تكون قيّماً على إقطاعية أكاديمية أو مؤسسة عامة . ضع في حسابك أنك تريدُ إرواء تعطشك للمعرفة وإثبات موجوديتك وترك بصمة – مهما تصاغرت رقعتها – في هذا العالم بعد أن تغادره .

تذكّرتُ هذه الواقعة وأنا أقرأ مقالاً كتبه أحد الأكاديميين في صحيفة عربية واسعة الانتشار . يبدأ المقالُ بالعبارة التالية:

نقرأ في هذه الأيام عن نوع من اليقظة في الكتابات الأدبية تدور حول النقد الأدبي والناقد ، لايخلو بعضها من الحماسة والتلويح بسَعة المعرفة بكُتّاب النقد الأجنبي، وذلك عن طريق ذَرذَرة الأسماء الأجنبية لكتّابِ النقد وأعمالهم التي قرأوها في الترجمة في الغالب...

قد تبدو هذه السطور في القراءة السريعة الأولى شيئاً عادياً لايستوجبُ التفكّر والنظر واستجلاء ماتحت السطور ومافوقها ؛ لكنّ الحقيقة غير هذا . تعكس هذه السطور الافتتاحية القليلة نمطاً سايكولوجياً سائداً لدينا يكشف عن شيوع قناعة مسبقة تستعصي على المراجعة والتعديل مهما بدت عاجزة أمام الحقائق المستجدّة ، وقبل هذا تكشف عن نوعٍ من الزهو الذاتي المتضخّم بما أنجزه المرء في حياته، واعتبار هذا المنجز مسطرة قياسية مرجعية ينبغي أن يسير الآخرون على هديها .

جفلتُ كثيراً من مفردة ( ذرذرة ) التي يوظفها الكاتب بحمولة سايكولوجية كاملة ومقصودة . هو يريدُ القول أنّ من يتوجّه لهم بالمقالة يكتفون بايراد أسماء نقدية ذات صيت عالمي من غير أن يتكلفوا عناء قراءة أعمالهم، ولو فعلوا وقرأوها فهم ليسوا أكثر من قرّاء ترجمات بدلاً من المصادر الأصلية؛ أي أنهم طفيليون يعتاشون على مايجود به الآخرون عليهم . كيف عرف الكاتب أنّ من يقصدهم بالكلام هُمْ على هذه الشاكلة؟ هل تمثلُ قراءة الكلاسيكيات النقدية – وكذا الحداثية منها – معضلة تخور لها عزائم الجبابرة، ولم يفلح فيها سوى الكاتب لميّزات حصرية إختصّها الإله فيه ؟ وهل لديه شبحٌ يطوف في الأرجاء ليخبره ماذا يفعل فلان أو فلانة، وأي الكتب يقرأ، وبأية لغة يقرأ ؟

لنفترض أنّ ألفاً أو إثنين ممّن يتوجّه إليهم الكاتب بخطابه كانوا على الشاكلة التي وصفها؛ لكنّ واحداً فحسب خيّب ظنّه وكسر هذه القاعدة ؛ فماذا ستكون النتيجة المتوقعة ؟ خيبة أمل كبيرة ، وشعورٌ بالتسرّع في إطلاق الأحكام وتعميمها؛ لذا نرى الغربيين يبتعدون عن هذه المقاربات المؤذية لأنهم يعرفون أنّ نموذجاً واحداً معاكساً لها يكفي لإثبات خطلها فضلاً عن مترتباتها الاعتبارية والقانونية.

لاأحد منّا قيّمٌ على مواريث إيليوت أو الجرجاني، والمعرفة حرّة مجانية متاحة للجميع، والإنكليزية ليست بعض ممتلكات ( وقفية ) يريد البعض أن يجعلوا من أنفسم حرّاساً ( إفتراضيين ) لها.

إتبع شغفك حيثما يقودك، وتلذّذ به. تلك هي النعمة الأعظم والأبقى في هذه الحياة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram