TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: مطعم الغريب

باليت المدى: مطعم الغريب

نشر في: 5 ديسمبر, 2021: 11:34 م

 ستار كاووش

لا أتذكر المرة الأولى التي سمعتُ فيها بإسم (مطعم الغريب) في بغداد، لكن ذلك كان مطلع التسعينيات على وجه التقريب، وقد تناهى الأسم الى سمعي في بعض اللقاءات الخاصة وإفتتاحات المعارض، حتى إقتربَ الإسم مني أكثر في تلك الظهيرة التي كنتُ جالساً فيها صحبة صديقة رسامة، تحت شجرة بمحاذاة تمثال الواسطي قرب بوابة مركز الفنون في بغداد بشارع حيفا.

أتذكرُ وقتها كيف إلتفتَ نحونا الفنان الراحل إسماعيل فتاح الترك أثناء طريقه للدخول، ثم توقف وهو يناديني بإبتسامته المعتادة، وسلمني ثمن اللوحتين اللتين إشتراهما من معرضي (جسد المدينة) الذي أقمته في ذات المركز. وقبلَ أن يَهمَّ بالدخول، إلتفتً نحوي مرة أخرى وقال مازحاً بصوت منخفض (راح تبقون مكابلین تمثال الواسطي؟) وهذا التمثال من أبداع إسماعيل ذاته، ثم أكملَ (روح…أخذها الى مطعم الغريب؟) قال جملته الأخيرة ضاحكاً وهو يحرك أصابعه مشيراً للنقود التي حصلتُ عليها تواً. ذهبت صديقتي الرسامة لحال سبيلها وأنا صرفتُ النقود في جمعية التشكيليين، وسهوتُ عن نصيحة الأستاذ. ولم يمر وقت طويل على ذلك، حتى التقيتُ بصديقي الشاعر فاروق سلوم في أمسية شعرية، قرأ فيها كالعادة قصائد رومانسية مدهشة، وبعد الأمسية خرجنا معاً نحو سيارته، وأنا أسأله حول المكان الذي سنقضي فيه السهرة، فإلتفتَ نحوي قائلاً (هل تحب ان نقضي المساء في مطعم الغريب؟) وهنا عاد الإسم من جديد نحو واجهة الأماكن التي عليَّ زيارتها، مثلما عادت المبادرات السخية من صديقي النجيب حين يضيق بي الحال. ولم تمض نصف ساعة إلا ونحن ندخل المطعم الخرافي الذي طالما سمعت به ولم تأخذني قدماي اليه قبل هذه اللحظة. دخلنا، فإستقبلنا صاحب المكان، المهندس فيصل الجبوري، ذلك الجنتلمان المذهل والمبدع ومحب الفن وعاشق اللوحات والجمال وكل ما هو فريد. كان واقفاً ومرحباً بقامته الممشوقه ووجهه الأسمر الجميل. وهناك رأيتُ كيف إكتظَّ المكان بشخصيات مبهرة، مثلما إمتلأت الحيطان بالعديد من اللوحات، حتى أن الكثير من مشاهير الرسامين قاموا برسم لوحاتهم مباشرة على الجدران والأعمدة وبعض الزوايا، بينما لُصِقَتْ على جزء من السقف أعداداً لا تحصى من قناني الشراب الفارغة (من النوع الذي يُغَلَّف نصفه الأسفل بما يشبه سلالاً من الخوص) حتى بدت كأنها عملاً فنياً أو ديكوراً نادراً. في الحقيقة، لم يكن المكان مطعماً بالمعنى المألوف، ولا حتى مشرباً، كذلك هو ليس مقهى ولا نادياً صغيراً يجتمع فيه الأصدقاء لقضاء الوقت، بل كان مكاناً مبتكراً، مثل متحف للجمال، مليء بالطعام والشراب والأغاني، ويجمع ناساً وتفاصيل لم تتوقع وجودها أبداً، إنها جنة صغيرة كان يتوجب عليَّ العثور عليها قبل هذا الوقت، مكان ليس له مثيل في العراق ولم أَرَ ما يشبهه في المدن التي زرتها فيما بعد. أخذنا مكاننا قرب لوحة تمثل وجه مربع، كان الفنان أسماعيل فتاح قد رسمها على الجدار مباشرة. وقبل أن أستفيق من السحر والعاطفة التي تحرك كل شيء، إنتبهتُ لأحد الضيوف وهو يتهيأ للقيام بشيء ما من زاويته التي يجلس فيها، فتبينته جيداً، وإذا به الفنان العظيم عباس جميل، وقد أمسك عوده وبدأ يغني لنا أغنية (ياكاتم الأسرار)، لنتبعهُ مسحورين ونتجمع حوله، كما في الأفلام المصرية القديمة، وسط الكؤوس والنجوى والنشوة والتحليق في عوالم خيالية، وأنا أكاد لا أصدق حدوث ذلك. ولم أكد أستوعب عظمة اللحظة، حتى رأيتُ النادل رأفت يقترب من طاولتي، واضعاً عليها لوحة بيضاء جاهزة للرسم، ثم ألحقَها بألوان الأكريليك وفِرَش الرسم، وإكتمل المشهد بعد أن وضعَ قرب الباليت قدح من الشراب، حدثَ ذلك وسط ابتسامات فيصل المشجعة وهو يشير لي إشارة حميمية تعني (إرسم، إن كان لديك مزاج لذلك)، فنظرت الى صديقي الساحر فاروق سلوم فبانَتْ نظرات الغبطة على محياه. فما كان مني سوى إشعال سيجارة والبدء بالرسم، وقبل أن أنتهي من العمل إقترب مني أحد ضيوف فيصل، وكان شخصاً أوروبياً، ووقف بمحاذاتي قائلاً (أود أن أشتري هذه اللوحة بعد أن تكتمل، سأدفع لك الثمن الذي تطلبه) فأجبته بلطف، أن اللوحة هدية لفيصل وللغريب. وبعد أن إنتهيت من الرسم، إقترب مني فيصل قائلاً بكرم قلَّ مثيله (ستار، سيكون هذا المكان مفتوحاً لك كل وقت، تأكل وتشرب على حسابي، أرجو أن لاتنسى ذلك)، ولحظة الكرم الجميلة تلك، كانت تشبه لحظات السخاء التي كان صديقي فاروق يغدقها تباعاً على رسام مثلي يعاني غالباً من ضيق ذات اليد. مرَّ الوقت ليحضر فيصل بعدها صحبة فاروق لمعرضي (رجل وإمرأة) الذي أقمته بداية سنة ١٩٩٣ في قاعة الرواق، وهناك إقترب مني مهنئاً ثم قال (منذ فترة لم أركَ في الغريب، هل نسيت الإتفاق؟ أرجو أن تأتي بأقرب فرصة)، لكن الظروف حالتْ دون ذلك مع الأسف، ثم سافرتُ من العراق، ليكون ذلك آخر لقاء بيننا. مرَّت سنوات طويلة لكني لم أنسَ ذلك المكان (الغريب) الذي جمع الجمال والحميمية وحب الحياة تحت جناحيه.

سلاماً للشاعر العذب والصديق الوسيم فاروق سلوم الذي أمسك يدي ودخلنا كأبطال السينما لذلك المكان. ومحبة للمهندس الجنتلمان فيصل الجبوري الذي فتحَ لي ذراعيه قبلَ الباب في تلك الفسحة الجميلة التي صنع فيها واحدة من سعادات بغداد ومدنيتها. وألتفتُ بشوقٍ لذكرى مطعم الغريب، وأيامه البغدادية المضيئة التي جمعت الرسامين والشعراء وصانعي البهجة والموسيقى والحياة والألفة والأمل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. جعفر صادق رشيد

    مرحبا، يا ريت الكاتب او احد من الجريدة يقول لنا ان كان المطعم بعده موجود. مع تحياتي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

العمودالثامن: الحرب على الكفاءة

 علي حسين منذ ان ظهرت الديمقراطية التوافقية في بلاد الرافدين ،والمواطنونالعراقيون يبحثون عن مسؤول مختلف يمنحونه ثقتهم، وهم مطمئنون ، رغم أنهم يدركون أنّ معظم السياسيين ومعهم المسؤولين يتعاملون مع المناصب على أنها...
علي حسين

قناطر: ليلُ العشَّار الطويل

طالب عبد العزيز يحلَّ الليلُ باكراً في أزقّة العشَّار، أزقته القصيرة والضيقة، التي تلتفُّ عليه من حدود شبه جزيرة الداكير الى ساحة أم البروم، يحدث ذلك منذ سنوات الحرب مع إيران، يوم كانت القذائفُ...
طالب عبد العزيز

محاسبة نتنياهو وغالانت أمام محكمة الجنايات الدولية اختبار لمصداقية المجتمع الدولي

د. أحمد عبد الرزاق شكارة يوم عظيم انتصاراللعدل عبارة تنم عن وصف واضح مركز ساقه الاستاذ المحامي الفلسطيني راجي صوراني عن طبيعة الدور الايجابي المؤثر للمحكمة الجنائية الدولية متمثلا بإصدار مذكرتي القاء القبض تخص...
د. أحمد عبد الرزاق شكارة

الاندماج في العراق؟

أحمد القاسمي عندما نسمع بمصطلح الاندماج يخطر بأذهاننا دمج الأجانب المقيمين في بلد ما. فاستخدام هذا المصطلح بات شائعا منذ بضعة عقود في الغرب ويُستخدَم غالبا عند الحديث عن جهود الدولة أو مؤسسات المجتمع...
أحمد القاسمي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram