طالب عبد العزيز
في باذرة الياس أبحثُ عن حبّة أكيدة للأمل، ومن وشيعة واحدة أنسجُ مصلاةً للصفح والنسيان، وعن الاشرعة الملونة البعيدة تحدثني الرياح، كلما أحدثتُ ثقباً في ملاءة المساء، عندي من المناجل ما يكفي لحصاد عام كامل، ومن الجمر في الموقد ما يجعل الاغنية بلهاء وساذجة، هذه الكأسُ تحرضني على العبث بشعر امرأة اتوهمها حبيبةً، سأسميها كفاية الموسم، تراجع السوسن في أصيص الفخار.. بالامس كسرتُ قارورة الضجر الاخيرة، ولم تعد الضباع تداهمني في الحلم.
أملك أكثر من عصا للنسيان، وأقلُّ منها للتذكر، وفي حافظة الليل عندي ما أطمئن اليه في النهار، بقصيدة واحدة لسان جون بيرس أقدر أن أضيّق المسافة التي تفصلني عن البحر، مثله أنا، وسعتني المراكب شجناً، وعلى طاولتي من النبيذ ما تصطبغ به وجنات صبايا الارض، وما التراب الذي على عتبة الدار إلا ما علق باقدام المحبّين، وما فضل من القصائد التي قالوها لبعضهم. من زجاجة ملونةٍ على كتيبة البيت أطالع تنورة امرأة مرّت سريعاً، حقيبتها سوداء، وسروالها كتّان أزرق، فأنا لا أغلق بوجه الظلام باباً، كلُّ أبوابي للتركواز والضياء، ولا أفتحُ على الندم ستارة، الندم جندي بساق واحدة، وعندي من اللبلاب والياسمين ما لو فرّقته على أسيجة بيوت الجيران لوسعتها.
أيها الشاعر اكتب لي قصيدة اخرى، غير التي كتبتها بالامس، أريد ليومي هذا ان يكون جميلاً، ولقميصي على المشجب انْ لا تطير فراشاته، وللفلاح، ينتظرني عند الساقية نضارة حقل البرسيم، الذي يتوعده بمنجله، وللإوز سعادة الطيران في الصباحات، لا تكتبني في سطورك، اكتبهم، جميعاً، هؤلاء، الذين عبروا النهر الى الضفة الثانية، وليس بمقدورهم العودة سالمين من هناك، اكتبهم، أولئك، الذين تسلقوا النخل، ولم ينسوا الشتاء النائم مواقدهم، قل عنهم ما يتوجب عليك أن تقوله، وكن لهم البيت والظلال والمسناة والقارب الابيض وطعم التبغ في أفواه النواطير. كن لهم المناجل والمجاذيف واليشامغ الحمر والقلق من تاخر المد، والبهجة في اصفرار العذوق أول حزيران .. لا تغضب على من تأخّر منهم، ولا تشتم أحداً ذهب الى النهر، ولم يجعل لك نصيباً في العشب على ضفتيه.
ايها القصّاب لا تذبح الثور الجميل هذا، إن ذبحته سيتجهم وجه المروءة، وسينهدم من معنى البطولة الكثير، أيها الجنديُّ لا تذهب الى الحرب هذا اليوم، أرجوك، دع الرصاصة تخسف وجه الفراغ. أيها النائم قرب ماكنة السقي القديمة، إبق نائماً، لا تستيقظ، ريثما يلتئم الافق الواسع قمحاً وقبرات. أنا ومنذ أمس، أتطلع في ورقة التوت الخضراء هذه، أبحث في خطوطها عمّن فقدت من اهلي.. ومثلك أنا أيها الشاعر، أتطلعُ بوجه الارض، وهو يبتهج بالمحاريث، في كل موسم للغرس، أتأمل يد عامل الخدمة، وهي تمتلئُ بالقليل من الدراهم.، افتح ثغراً في الترعة الممتلئة بالماء، ينساب الى فسيل بعيد، وفي رحلة النماء والخصب الطويلة، والى هناك، رحتُ اصغي لوشوشة الأوراق اليابسة، وهي تدرأ عن بعضها وقوفها الطويل.