حيدر المحسن
- 1 -
هل يسير الحسّ بفنية القصّة نحو التلاشي؟ لا أؤيد هذه الفكرة، طالما وجدنا بين أيدينا هذا النصّ، المنشور ضمن مجموعة محمود عبد الوهاب القصصيّة "رائحة الشتاء"، والمُثبَت في نهايته تاريخ 6 آب 1996، والمعروف عن الراحل أن القصة تستغرق منه سنة كاملة، وهي من 500 كلمة، أو أقلّ.
كأن الراحل كان يعمل في مصهر للحديد، حيث تُطرق كلّ كلمة وتُصهر، ويظلّ العامل يصهرها ويطرقها حولا كاملا كي تحمل الدرجة القصوى من العمق والانعكاس عن الواقع. هو كدح جنونيّ يقوم به محمود عبد الوهاب، وكان يختار أزهى الصّباحات وقتا للعمل...
تبعا ل"وردز وورث" فإن في الخيال "طاقة هائلة كافية لإحداث تغييرات حتى في طبيعتنا الفيزيقية"، وهذا مشابه لمبدإ التّطهير الأرسطي، ومختلف عنه في كونه أكّد على عنصر الخيال في الفنّ، كما أن التّغيير لا يقتصر على تنقية النّفس، فبإمكان الطّاقة التّخييليّة الكامنة في النّصّ الأدبي نقلنا من طبيعة إلى أخرى، وهو رأي قريب لما جاء في كتاب "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" للشاعر الأديب حازم القرطاجنّي: "إن القصد من التّخييل والإقناع هو حمل النّفوس على شيء أو اعتقاده أو التخلّي عن فعله واعتقاده". لإثبات صحة هذا الكلام أنقل لكم مشهدا من كتاب "أيام القراءة" يصف مارسيل بروست فيه ساعات هنائه مع الكتب، وكان يستغل وقت قبل الغداء للقراءة: "لسوء الحظّ، كانت الطاهية تأتي باكرا جدا لتضع أواني المائدة؛ ألا ليتها كانت تضعها دون أن تتكلم". تسحب الطاهية بروست من علياء سمائه حين تسأله: "أنت لست في وضع مريح هكذا، هل أضع طاولة بالقرب منك؟" ما إن ترتفع عيناه عن الكتاب، يعود إلى حياته العاديّة، ويجيبها قائلا: "لا، شكرا جزيلا"، لكنه صار يجهل "نبرة الإجابة" بالحروف الأرضيّة، وهذا الأمر يسبّب إحراجا له. لقد نسي مارسيل بروست لغة البشر عندما كان يعيش مع "الآلهة"... نفهم من هذا أن في اللّغة نبرتين: أولى وثانية، سماويّة وأرضية، أدبية وعاديّة، والكتابة العظيمة يختار لها المؤلف النوع الأول من الحروف، وهذه تجعلنا نعيش حياة لها طبيعة أخرى، وتحملنا على الاعتقاد بآراء جديدة، والسحر الذي فيها هو الذي قام بهذه المهمة، فإن غاب السحر صار الكلام عاديا، مثل نفخ في الهواء، أي كلام شارع...
يُقال إن النّاس أماكن والأماكن ناس، وأكثر الكتّاب التزاما بهذا المبدإ هو مؤلّف "الملاعق"، فالحيّز المكانيّ في القصّة لديه يؤدي دور الشّخصيّة الرئيسيّة، والبقية رُسمتْ لهم أدوار ثانوية، لكن هذا لا يعني أن الكاتب يقوم بوصف كلّ صغيرة وكبيرة، وكل تفصيل داخليّ في المكان. في "الملاعق" هناك إشارات وصفية متباعدة، وعلى القارئ مهمّة الجمع بينها، كما أن عليه أن يعمل خياله في إتمام المشهد، ويصير عندها كلّ شيء في القصّة مرئيّا. يمتلك هذا النوع من التصوير دلالة قصصية قويّة، مهمتها تجنّب صنع هياكل وصفية جامدة تكون فيها الدلالة الفنيّة ضعيفة، أو معدومة. لا يمكن استعارة طريقة بلزاك في الوصف، فالقارئ لا يتقبّل في زماننا هذه الطريقة من الإبصار، والتي يدعوها جورج لوكاتش "الواقعية الوصفيّة"، ويشبّهها بلوحات مستقلّة عن بعضها لا يجمع بينها من النّاحية الفنّيّة أي رابط، تماما مثل لوحات معلّقة على جدران متحف. تشبه القصّة القصيرة السّهم، وها هو قد انطلق، ولا بدّ من توفر غريزة وممارسة ودقّة رامي القوس الجيد، والقوة اللازمة للإطلاق، كما أن أيّ عصفة ريح تؤدي إلى ابتعاد مؤسٍ عن مركز الهدف.
لا يعتمد القاصّ على التصوير، ويستخدم بدلا عنه ما يمكن أن ندعوه بالمؤثّرات الوصفية، ينثرها على هيكل القصة، بحيث تشدّ بنيانه، وتنيره في نفس الوقت، والخطأ هنا، حتى لو كان قليلا، لكن تأثيره على الشّكل النهائيّ يكون مزلزلاً.
(يتبع...)