ناجح المعموري
تنطوي عناية فلاح بجسد الانثى على ادهاشات ولغة خاصة ، وكأن لجسد الانثى لغة مغايرة ومختلفة . ما يتحدث به الانسان يمثل معجماً خاصاً وواحداً . لكن لغة الانثى متميزة ،
لكل جسد لغته وهنا تنبثق الاندهاشات وتتصاعد الاغواءات والاثارة وكأن الروائي من قراءة وجه هدى تسربت اليه التماعات عينيها . دهشة اللون الاخضر وما يومئ به من تجدد وانبعاث ، لكن علياء المزدحمة بثيابها السود ، لا شيء عليها يوحي بوجود حلم وامل لغة هدى المستورة بثيابها وطوفان جسدها بمفرداته .
لكل جسد لغته الخاصة ، لذا يذهب التحليل النفسي والاجتماعي الى ان المرأة مهما بلغت من العمر . فيها اثارة وتقيم علاقات مع الاخر ، جسدها يتكلم ويبث شفرات ورسائل . لغة جسد هدى صاخبة ، وعلياء لغتها خرساء خضراء ، خضراء حتى لغة جسدها خضراء ، ترتضي البقاء بذاكرة من استمع اليها . والعودة لرواية حبات الرمل ... حبات المطر . سيجد لحوارات هدى حضوراً وبقاء وسيرورة في هذه الرواية وما ذهبت اليه اماني صائب وآلية في منتهى الذكاء لانقاذ هدى على الرغم من العطل القاتل للمرأة .
هل يعرف احدنا كم هي عدد حروف اجرومية جسد الانثى ؟ لا اعتقد وجود شخص يعرف ذلك . لان كل انثى لها لغة فريدة ، مجيدة خاصة تجسدها ، يتحدث بها همساً وعند اشتداد وتصاعد الخطاب بارتباكاته ، تتحول اللغة الى همهمات وارتجافات وارتعاش ، يتحول كل شيء الى خبصة ولان الحياة جميلة وفياضة بالبهاء علينا نزاول العلاقة معها من خلال الحب ــ الحياة لن تكون الا الحياة ، والحرب هي الموت " اذا ما اراد لهذه الحياة ان تنبض بما يليق بها ان لا تتحول الى موت مقنع / ص130//
تكررت الاشارات الى قصة " حبات الرمل ... حبات المطر " ولذلك اكثر من سبب ، اولها تحريك خزان الذاكرة والتقاط المحكيات التي عاشها كل من سليم وهدى وهما في الكلية . ولان " حبات الرمل ... حبات المطر " اول قصة كتبها سليم ونشرت في مطبوع مهم للغاية واجمل المثيرات للاستعادة استذكار مرويات التبادل والمحبة بين الاثنين وباختصار فان حبات الرمل مشهد يومي معروف ومغاير عن مشهد اللعب والغبار ، عندما كان عسكرياً . الفرق واضح بين الحلميين الواقعي قرب باب الكلية والحلمي وسط ساحة في منطقة ام قصر تشارك الاناث بلعبة الريشة ، الرمز الكامن في اللعبة بسيط وشفاف يضيء خمول الأدوار الحياتية للفتيات علياء ، هدى ، بيانكا . الموت مطارد لهن ، حتى اللعبة ، اختارت ساحة موت . الموت هو المتخندق والموجود في كل مكان حاز حكايات خاصة به .
ان احلام النساء ومفعولها هو الذي يضع للواحدة شكلاً يقف أمام مرآة خاصة بالمرأة / الأنثى ، وما يتمظهر هكذا ، هو خلاصة الحكايات كلها المانحة لها ، حكمة انقاذية تومئ لمسلك يجعل حياتها حاضرة ونجحت بالتقاط سرديات فلاح النسوية باعتبارها مجموعة حكم تفضي لخلاص حتى ولو كان بسيطاً .
علياء سردية أكثر عمقاً وامتداداً وهيمنة من كريم . ليس بسبب موته ، بل لأنه ترك لها عقباً ، سأتحدث لاحقاً عن ختانهما والعلاقة بين فعل الختان ونزف الدم والادراك الحسي الذي اسس الرؤية النهائية المكتملة ، وماذا ستكون تأثيراتها ، هي تحدق بطفليها لحظة قطف الغرلة وبماذا فكرت علياء آنذاك .. وما هي التداعيات التي دارت بذاكرتها ، علاقة الطفلين مع كل ما استعادته من طفولتها . الحكايا مرايا كما قال عبد الفتاح كليطو وأنا اعني بهذا الاستشهاد والمستعان به بأن سرديات النساء لها قراءات متنوعة في هذه لرواية ، ستساعد كل واحدة منهن تقدماً يملأ كل الحكايات ، وسترى كل واحدة منهن في مرآة الحكايات وما ستؤول اليه حكايتها وما استقرت عليه والى متى ستظل متحركة حتى تتوقف بمعنى ستظل بانتظار ما ستكون عليه الحكايات عبر الحكايات التي كان المبتدأ . مستولدة لكل أنثى حكاية مستولدة من حكايتها الأولى ، وهكذا ستتمكن كل واحدة منهن من التغلب على غربتها ووحشتها ، [ بالاستفادة من كليطو / كتاب الخيط والإبرة ] .
وجدت جذباً خطف علاقتي مع سرديات فلاح ، قراءات سريعة لكنها بطيئة في تأملي لها وكأني أغوص لملامسة نعومة الأنامل التي تركت على أصابع سليم بللاً بسيطاً ، لكنه أنعش الروح . الوصف الدقيق الي قدمه سليم وشفره أضاء مفردات جسد الأنثى التي خزنتها ذاكرته ، إنها هدى ، فما زال جسدها بانتظار التعرف عليه ، لأن العطلات التي أشرنا لها ليست حقيقية ، ربما سيتوصل شخص ما الى مواطن الانبعاث فيه ويلتقط هداياه .
العناصر النسوية في الرواية عرفت الموت وقسوته ، وعاشت الفجيعة وأدركت كل واحدة منهن . كم هو موحش الغياب والفراغ الليلي البارد ؟ يقول الشاعر ادونيس : بعد الموت تكون النصوص المكتوبة مفتوحة على اللانهاية . فالزمن هو الذي سيحددها . ويعاود تحديدها . الهوية إنما هي حركة . ولا يمكن أن تكون ثابتة متجمدة .
أخذني انشغالي بهدى لقراءة عدد من فصول رواية فلاح المهمة " حبات الرمل .. حبات المطر " واكتشفت شذرات مخبوءة في سرديات فلاح عن هدى وتوصيفات لعديد من التقاطاته . ووضع رؤيته التي امتلكت لسطح المعروف لليومي ، وعرف أشياء كثيرة عن هدى ، لذا وبعد الاطلاع عليها في هذه الرواية سأقول ما استولده اندهاشي عندما يتحدث فلاح عن الانثى ، يحفر عميقاً وكثيراً حتى يلتقط كلاماً لائقاً بالتي يقول عنها ودائماً ما يورطه الكلام بكلام آخر متوتر يقود لجمال الشعرية ، التي لا تكون الا مع الانوثة ويتمظهر الكلام في احيان مثل اللغة البدئية التي أسست اللحظات الاولى للوجود والكينونة .
علياء الجليلة التي أينعت تربتها وعايشت لحظة العبور ، ورأت مشهد الدم التي اعتادت عليه سنوات طويلة ، الفرق كبير بين دم جسد الانثى ودم جسد المذكر . كيف أنت يا هدى وطاقة الاحتمال ، العودة الى المرويات حاجة لجسد الانثى حتى يتناغم مع لغته . لغة الجسد مقدسة . خسرت علياء وهدى لحظة الصدام بين المذكر والمؤنث ، التذكر والخيال كاف لتفعيل الجسد ومرويات الاحتكاك التي تقود المختفي والظاهر . لماذا مات حارث وكريم . إنها الكارثة . ولماذا خلق الله الكائن على صورته ويفضي به الى الموت ، النزول الى رحم الأرض . ومثلما قال أدونيس الانسان نواة الكون . ذهب أدونيس الى أن الانثى إذا فقدت زوجها لا تقوى على تحقيق المجد الذي يعطيه الجسد ويتلقفه الجسد .
لا بد على الانثى أن تحوز على جسد حي ، ونابض مع روح عالية وغالية حتى تنجح في الوصول الى البلل والابداع العظيم ، ولكن ذلك ليس سهلاً أن يتمكن منه كل البشر . انه نوع من الصعود الى ذروة الوجود كما قال ادونيس . وأضاف أن الكائنات الانسانية ليست سواء في الصعود ، وبهذا المعنى أقول بأن الحب ابداع . لا توجد بداية بدون جذور . البداية تنبت ولا تسقط كالصاعقة من حيث لا أحد يدري مصدرها يعني هي جزء من التربة . جزء من سراب الوطن ضاعت القصة ولم يعد يربطني بمؤلفها أية رابطة . هدى نفسها لم تعد هدى التي كتبت عنها القصة . تزوجت وفقدت زوجها وهي لا تزال كما قلت ترتدي الحداد هو حال علياء .
تجهم وجه أنعام حين أتى على ذكر الخسارة ، لكنها نفضت عنها الهم وتشبثت .
ـــــ هذا تناقض
ـــــ كيف ؟
ــــــ اذا كانت للبداية جذور في الماضي ، فلماذا لا تكون القصة هي الجذر لبداية جديدة /ص93 .
كم هي بائسة وفقيرة الزوجة التي ما زالت محتفظة بأنوثتها ؟ الحاجة حاضرة في كل الأوقات ودائماً ما تكون ملتهبة في ارتعاشات الجسد في الأوقات الأسطورية . من اقترح الليل وقتاً لمزاولة اللذائذ . العراف الذي عاش رجلاً وصار أنثى وأجاب بأن المرأة طاقتها اكثر من الرجل سبع مرات ، كيف بها أثناء الغياب ، ولم لا التخيّل والتبادل الحلمي الذي يكون فيه الجسد رماداً ، لكنه يشتعل كالبنط . الجسد الذي وحده يستجيب للحلم ويعيش سردية مشتركة يفوز بها باتصال غرائبي ، متوتر بالدهشة ، فلكي يلتقي جسدان يتحتم عليهما أن يمتلكا احساساً رفيعاً . لقد خلق الله الانسان على صورته . فالإنسان نواة الكون . لكنني لا أعتقد أن الخالق هو الذي قال ذلك بنفسه وإنما الانسان وقد جاء في المأثور : للوصول الى ما يسمى الله لا بد من المرور بالمرأة والسعي الحثيث الى امتلاك ثقافة رفيعة ، هذا ما قاله أدونيس .