نجم والي
أول يوم بعد 16 عاماً بدأ من دونها، ميركل، أمس ذهبت لتبدأ حياة جديدة، واليوم بدأ يومنا جديداً أيضاً... لقد هبط الثلج للمرة الأولى هذا العام، وظل يهبط نتفة نتفة طوال اليوم، ربما بدت للبعض دمعات متناثرة، ربما بدت للبعض تباشير فرح، ربما بدا البعض واجماً، ربما بدا البعض الآخر فرحاً..
لا أدري، بل لا يهم، ميركل، والتي أسمها يعني المعجزة، البشارة، الملاك، لم تكن ملاكاً يوماً ولا شيطان، كانت ميركل وحسب، أدارت ألمانيا 16 بحكمة إبنة قس بروتستانتي، وبدقة طفلة فرق الكشّافة الصغار لجمهورية ألمانيا الشرقية التي كانت مواطنتها، ربما ذلك هو سر نجاحها، جمعها بين الطبيعتين الألمانيتين، الطبيعة البشرية الشرق ألمانية والطبيعة البشرية الغرب ألمانية، واللتين ماتزالان حاضرتين في الحياة اليومية على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاماً على الوحدة الألمانية، وبقدر ما كان الحديث رسمياً عن إندماج الشعب الواحد، غير إنهما كانا شعبين كل واحد منهما شق طريقه قرابة نصف قرن (وإن لم يكن قبلها في ماضي التاريخ!)، دينياً وأثنياً وسياسياً، المانيا شرقية بإغلبيتها "الساحقة" ماضيها بروتستانتي، وملحدة عقوداً طويلة، وألمانيا غربية فيها الإثنين: في الشمال والوسط وبرلين أغلبية "ساحقة" بروتستانتية، وجنوب أغلبية "ساحقة" كاثوليكية، وتلك الفوارق، التي هي تنوعات حقيقة، صعب توضيحها لمن لا يعرف ألمانيا ولم يعش فيها سنوات طويلة ويختلط مع ناسها، أسرياً أو إجتماعيا، ثقافياً أو تعليماً، ميركل المؤمنة البروتستانتية المحافظة، لكن البراغماتية كما علمها دينها البروتستانتي، كانت تزداد نضوجاً كل سنة، 16 عاماً حكمت، وأدارت الدولة الألمانية أفضل من كل رؤوساء الحكومات التي عشتها على مدى أربعة عقود، كانت لها حسناتها مثلما كانت لها أخطاءها، لكن بالمحصلة ربما بإستثناء الإشتراكي فيلي براندت فاقت هي على كل مَن سبقوها من حكام، لم أكن أحد الذين أنتخبوها طوال كل الدورات الإنتخابية التي مرت، لأن ما يمثله حزبها من سياسة لا يمثلني، ربما كانت هي في الحزب الخطأ، ربما أنا كنت على خطأ، لكن أمراً واحداً يظل ثابتاً بالنسبة لي، هو إنني عرفت ميركل الإنسانة، وكانت لي معها دردشات وحكايات ومراسلات، وفي كل ما عشته بحضورها كان مدهشاً، كانت تجبرني بحضورها، بهدوئها، برزانتها و... بحبها للنكتة، كانت تجبرني على الإصغاء لها، بإنسانيتها، بجاذبيتها، بقوتها، وليس لأنها كانت رئيسة دولة.
ربما هي كذلك، كانت كما كانت، لأنها عالمة فيزيائية أصلاً، تعرف معنى قوة الجذب، تعرف التوازن والحركة والطاقة والنسبية، أو ربما، لأنها لم تلد طفلاً ذات يوم، ربت إبن زوجها مثل إبن لها، ولهذا حسبت كل الناس كما أبناء لها، أو ربما لأن لا أطفال لها ركزت حبها ووقتها ناحيتهم، صوبت محبتها ووقتها بإتجاه آخر، ربما ما أقوله صحيح ربما ما أقوله لا صحة له، هرطقات عراقي في ألمانيا، وألماني في العراق، مجرد كلام لكاتب يهذي على هواه، لكن إن كان الأمر غير ذلك، لماذا أطلق عليها الناس إذن لقب "الأم Mutti" وهي لم تكن أماً بيولوجية؟ لكن متى كانت البيولوجيا هي الحاسمة في إنسانية إنسان، بل ومتى كانت الأمومة والأبوة باعثاً للسحر والإنسانية والحنان، إن لم تكن سلطة واقعة وطغيان؟ كم طاغية أولدوا أبناء أكثر منهم طغيان!
ذهبت ميركل وتركت لدي بضعة ذكريات حلوة خلدتها صورنا، ولن أنسى أبداً حضورها إلى صالة القراءة وجلوسها في مكان معتم لكي تسمع قراءة "ملائكة الجنوب"، ثم إقترابها مني وهي تحمل روايتي بين يديها، وتقول بودّ وبأدب: "سيد والي هل تتكرم عليّ بتوقيعك؟"، ماذا كان عليّ أن أقول؟ رئيسة ثالث أو رابع قوة في العالم، تطلب مني التوقيع على روايتي؟ قلت لها، "من كرمك، أيتها السيدة"، ثم رويت لها طرفة، ضحكت لها من القلب (كما في الصورة) وكل الذين رأوا الصورة، قالوا، لم تضحك ميركل يوماً في حياتها كما ضحكت في تلك الصورة، "أية نكتة قذرة رويتها لأمنا؟" يمازحونني متسائلين، وكانت تلك بداية تعارفنا، وأول دردشة مباشرة بيننا، أعقبتها دردشات أخرى، مرة حضرت ندوة وجلست إلى جانبي وألقت عليّ التحية مثل صديقة أو صديق، وحين صدرت ترجمة رواية "إثم سارة" أرسلت لي مهنئة بخط يدها الجميل وبقلم الحبر، تخاطبني بإسمي "عزيزي نجم والي" من دون رسميات ... وحتى حين وقعت في أسفل البطاقة، وقعت بإسمها فقط "أنجيلا ميركل"، من دون "دولة رئيسـ(ـة) الوزراء!!!" أو ما شابه من ترهابت "شرقية"... تلك كانت ميركل بالنسبة لي، ولا أظن أن اليوم سيأتي ويحكم وادي الخرابين أو في بلدان الخراب العربي الأخرى، رجل أو إمرأة بهذا التواضع، بهذه الحكمة، بهذا الحب للثقافة وللمعرفة وللناس... يجمع الأضداد في شخصيته، لكن يظل محافظاً على السحر.
وداعاً ميركل وسنلتقي على كوب قهوة أو كأس نبيذ في القريب....