طالب عبد العزيز
بمناسبة الذكرى السابعة والخمسين لوفاته أختلفُ مع بدر شاكر السياب في اثنين(المطر والشمس) فأنا أحبُّ ما كرهَ، وأكرهُ ما أحبَّ. فهو ، ولأسباب واقعية وحياتية، وإن جاءت رمزية، تتحدث عن الثورة والخصب في آخر أبيات قصيدته (أنشودة المطر) يكره المطر! أتعلمين أيَّ حزن يبعثُ المطر ..؟ وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر ..
ويحبُّ الشمس لأسباب رمزية، لا واقعية بحسب قراءتي لــ : الشمس أجمل في بلادي من سواها .. وهكذا، ذهب في حبّه وكراهته، وساذهب في حبّي وكراهتي، أنا ابن بلاده، التي آلت، وهو ابن بلادي التي كانت، وما بيننا الأمطار والشموس والسنوات.
تبعد جيكور (قرية الشاعر) الطفل عن مركز مدينة ابي الخصيب، حيث مدرسته (المحمودية) أكثر من ثلاثة كلم، لذا كان عليه أن يقطع المسافة هذه مشياً على قدمين نحيلتين، في درب موحل، يخترق غابة النخل، وتنهمر المزاريب عليه من كل صوب، في أرخبيل مائي رطب، طوال شتاء بارد وقارس وماطر، ولنا أن نتخيل الصبي الذاهب الى المدرسة، أو العائد منها قبيل الغروب، وقد أطينت قدماه، وتبللت ثيابه، فارتعدت فرائصه برداً ، أو وهو يدخل بيتاً ليس فيه أمٌّ تستقبله، وقد افترش حصير الخوص، قرب الموقد، الذي سرعان ما تخمد ناره، يجفف ثيابه، ويعيد ترتيب دفاتره وكتبه، أو وهو يذهب الى فراشه وحيداً، وبلا يدٍ يتوسدها، في بيت ذهب كل من فيه الى حاجاته.
حريٌّ بصبيٍّ مثله أن يكره المطر، الذي رافقته بسببه، صورة الطين والمزاريب والدروب الموحلة طويلاً ، مثلما رافقته في مرضه واسفاره، حتى أخريات أيامه، هذا العائق الغيبي، النازل من السماء ، الذي لا قدرة له على اتقائه، ولا سبيل لردِّه، في مدينة مثل البصرة، وأزمنة كانت شتاءاتها أطول، ودروبها مظلمة ما تزال، والحياة فيها أكبر من ان تطاق وتحتمل. فالصبي الوحيد يشعر فيه بالضياع، حتى الام المدفونة هناك" تسفُّ من ترابها وتشرب المطر" . لذا، أحبَّ بدر الشمس، هو المريض، الذي تبرد وتتجمد اطرافه بسبب من عدم جريان الدم في اوردته، فالشمس هنا معادل عن الحياة، إن لم تكن الحياة عينها، هذه الشمس التي تلهب البلاد اليوم، وتعمل على تعطل الحياة، حتى أنني، اشعر بعدم قدرتي على الكتابة عندما تتجاوز درجات الحرارة معدلاتها التقليدية.
أما المطر، ذاك الذي يهرب منه العظيم بدر فهو معادل الروح عندي، لا أمله ولا أكرهه، ولا ارتوي منه، ولطالما قطعت شارع الكورنيش، ماشياً تحته، مبتدئاً من تمثاله، الذي عند صدور نهر العشار ومنتهياً الى آخره الذي عند صدور نهر الخورة جنوباً، لا اتقيه ولا أهابه. وبحسب قراءتي هنا، أرى أنَّ الجغرافيا والمتغير المناخي يلعبان اللعبة معنا، شتاء بدر الكريم بامطاره الثقيلة وصيفه المشمس والدفيء مقابل شتاء طالب البخيل بامطاره وصيفه اللاهب والقاتل، وإذا تذمر بدر من حياته الباردة هناك فأنا متذمر مثله من حياتي المحرقة هنا.