حيدر المحسن
2
اختار محمود عبد الوهاب المطعم في هذه القصة مكانا، ويلاحظ القارئ أن الفندق والمقهى والحانة، أو الشارع، أمكنة أثيرة لدى الكاتب، وللبيت حصة ضئيلة،
كأن حياته نراها مفصّلة في قصصه، والأجواء المفضّلة لديه وحدها تتنفس فيها شخوصه الهواء. المكان الواحد في أيّ قصة يؤدي بها إلى أن تشبه مسرحية، حيث يقوم السرد بدور الحوار، ويؤدي الحوار القليل في قصة عبد الوهاب، إن وجد، وظيفة السرد في المسرحية، وهذا قليل فيها، أو معدوم. كأن الراحل كانت تحرّكه رغبة قوية في تأليف مسرحيّ يشاهده الجمهور، الأمر الذي يفسّر انتماءه المديني، وتطلّعه في الوقت نفسه، فقصصه المكتوبة في التسعينات، وبعد سفرات عديدة وطويلة قام بها إلى أوروبا، صارت تتكون من مشاهد صقيلة مستوحاة من معيشة الناس في عالم الغرب، واكتفت من مكانها الذي تنتمي إليه، وهو العراق، بالثيمة لا غير. هل يمكننا استعارة عنوان كتاب غوته الشعري: "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" لقصص عبد الوهاب، وندعوها "القصص الغربية لمؤلفها الشرقي"؟
في "الملاعق" يدخل الرجل المطعم، وعمد القاصّ إلى وصفه بطريقة تمكّن القارئ من أن ينصت لصوته الداخلي، وللخفقان في قلبه الموجوع بسبب الجوع. كتبت القصة في 1996، أي في أكثر سنين العوز التي مرّت بالبلاد بسبب الحصار والتضييق اللذين قامت بهما الدول العظمى على مصادر استيراد الغذاء والدواء. قبل أن يأكل، يحسب الرجل نقوده. ويتأكد من كفايتها، ثم: "دفع الملعقة داخل الحساء، وبحركة بدت بطيئة وضع الملعقة في فمه وازدرد ما فيها دفعة واحدة، وتسارعت حركته". تظهر لنا صورة الرجل كأنها تهاويل حلم، أو نوع من أنواع الهلوسة التي سببها الجوع: "الملعقة تتخاطف وأعضاء وجهه ترتج تحت حركتها الدائبة، وبخار الحساء يندفع مثل حد السكين ليشطر وجهه إلى نصفين". لا توجد في القصة صور فوتوغرافية تنقل الواقع كما هو، والمشهد فيه إيحاء لا نهائي، وفيه أيضا تعازيم لاستحضار حالة الشقاء التي تنتشر في طول البلاد وعرضها. وهو يأكل، يزداد جوعه، وبدل الشعور بالشبع والامتلاء، تصيبه نوبة من التفتّت نتيجة الفراغ الذي سببه الحرمان: "الملعقة لا تهدأ والبخار يتجمع على بقايا وجهه في رغوة كثيفة، ومثل عجينة رخوة أخذت أعضاء وجهه تفقد تماسكها وتنفصل وتتطاير في الهواء فقاعات تنفجر في صوت مكتوم وتتساقط في قعر الطبق: أنفه، أذناه، ذقنه، مثل سائل لزج تتقاطر أعضاء وجهه في طبق الحساء قطرة قطرة...". الصورة صادمة، وتذكّرنا بأعمال النحّات الأمريكي الكسندر كالدر عندما فاجأ جمهوره في أول معرض له بمنحوتاته المتحركة، وأدى الإيقاع الحركي للتماثيل، مع الظلال المرتسمة على الجدران ما يشبه الرقصة النحتية التي أذهلت الزائرين. هل أراد الاثنان، القاصّ والنحّات، التأكيد على أن الحياة المستقرة لا وجود لها في الواقع، والجميع في حالة تنقل دائم وسفر، حتى تفاصيل الوجه منا؟
"اندلق السائل بلزوجته على غطاء المائدة وتدلّى من الحافة على أرضية المطعم. يتدفق. يسيل. يتشعب في عروق منتفخة". يشبه ما يجري في "الملاعق" صورة الدم بعد إطلاق الرصاصة في "مائة عام من العزلة"، حيث يتفجر من رأس القتيل ويجري في خط مستقيم، يحيط بالبيت، يدخل من أسفل الباب... في قصة عبد الوهاب يتدفق وجه الجائع، "يسيل. يلتفّ، يسدّ الثقوب، يغور تحت الموائد وبين أرجل الزبائن في همهمة مكتومة لصوت بشري واهن هو صوته".
يغادر الرجل المطعم، لكنه يترك ظلّه الثقيل في المكان ومنديله، "الزبائن يدخلون، يتحلقون حول موائدهم، يديرون ظهورهم عن مائدته". كأن تمثالا صُبّ في كرسيّه في المطعم، ويحمل النحت اسم "الجائع".
هنالك شجرة وحيدة تمثل ما في غابة بأكملها من قوة ونضارة ووئام، ويحضر الرجل الجائع في القصة وحيدا، ويغادر وحيدا، لكن كثافة الوصف، واحتدامه، وغرابته، صيّرت منه منحوتة تمثل شعبا كاملا أصابه الظلم والحيف والهوان.