د. جمال العتابيفجأة، أسعفني الأخ المفكر كاظم حبيب برسالة لا تتجاوز بضعة اسطر، من حرج شديد كدت الوقوع فيه، ومن تردد انتابني وأنا أراجع نفسي في كيفية المشاركة باحتفالية (ماسية) تقيمها وزارة الثقافة لإقليم كردستان، منتصف حزيران الجاري للدكتور كاظم لمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين.
لقد أيقظت فيَ الرسالة تلك بمدلولها وإيجازها، مئات الذكريات عن حقبة زمنية عشناها معا، لقد عادت بي إلى سنوات السبعينيات، عندما كنا تحت سقف لبيت واحد نتشا طر فيه العيش والأحلام.لقد قدم لي كاظم حبيب اختصاراً لكل ذلك الزمن، ووفر لي جهداً وعناءً في البحث عن موضوع... هو محوره، وبطله، إذ كنا ننظر بانبهار ودهشة لتلك الفتوة والحيوية لشخصية تتدفق شباباً وعطاءً، لاتكل في التنقل بين المجلس الزراعي الأعلى، وأروقة (طريق الشعب)، و (الثقافة الجديدة)، والمهام الحزبية، وإلقاء المحاضرات على طلبة الجامعة المستنصرية. لتقدم نموذجاً متميزاً وفريداً، في العمل والمثابرة، والصبر، ونكران الذات، والتواضع، واكبر من ذلك،نشر المحبة للناس والوطن.كنا مجموعة من الشباب، بدأنا خطواتنا الأولى في عالم الصحافة الفسيح. واغتنت تجاربنا المتواضعة بما تعلمناه من أولئك (المعلمين) الكبار.. إذ كانوا فرسان التجربة التي أضحت علامة متميزة في العمل الصحفي والثقافي. على الرغم من قصرها ووأدها من قبل القوى السوداء. فذهب صناعها الماهرون، لكن إلى أين؟..إلى الغربة، والموت، والزنزانات. والاختباء...!!لم تكن رسالة حبيب البليغة تحمل شيئا من الأسرار، لأننا اعتدنا الكتابة احدنا للآخر، بين الحين والحين، برسائل تقتصر على السلام والسؤال عن الصحة والاطمئنان عليها. سيما وإننا نلتقي كذلك بمناسبات متباعدة، في بغداد أو في كردستان. نستعيد الماضي بتفاؤل أو بدونه، ونتحدث عن الحاضر والمستقبل بترقب وحذر..! إنها رسالة كالدرس.. فصيحة وواضحة وشجاعة، شحذت ذاكرتي لأستعيد تفاصيل جلسة على طاولة غداء في احد مطاعم اربيل ضمت الصديقين الدكتور كمال مظهر، والدكتور تيسير الآلوسي، كنت قبالة الدكتور كاظم، حين سألني بنبرة خجولة عن حال احد الأصدقاء، وأثنائها مد يده بحذر شديد إلى جيبه وبحرص متناه بان لا يراه احد الحضور، وأودع لدي مبلغاً من المال ملتمساً إيصاله إلى هذا الصديق. لم أخف فضولي في السؤال عن معنى ذلك، فأجاب بكل تواضع : ان لديه شعوراً بالتقصير إزاء بعض الشخصيات التي ظلت وفية لمبادئها وحريصة على مواقفها الوطنية. فهذا الإنسان كما يرى، نموذجا من هؤلاء، يستحق الرعاية والاهتمام، مثلما يدعو للاعتزاز كمثال للإنسان العراقي المكافح والثابت الذي لم يغادر انتماءه في أقسى الظروف وأعتى المحن.ربما لا يشكل هذا الموقف مأثرة كبرى تسجل لصالح الدكتور كاظم من وجهة نظره. ومن المؤكد إنني اجهل مواقف أخرى له مع آخرين تحمل نفس المعنى، لكنني لا اجهل حتماً مقدار النبل والوفاء الذي يحمله حبيب، وبلا حدود.. ليس لهذا الصديق لوحده فحسب، بل لكل العراقيين من أمثاله.أقول بدون أدنى مبالغة، إن الدكتور كاظم أزاح عني بهذا الفعل هما كالجبل.. فنفسي ما عادت تجد التفسير المقنع لسلوك الكثير من الأصدقاء الذين غادروا الوطن مكرهين، وعادوا من جديد بعد سقوط الديكتاتورية، وأشاحوا بوجوههم عن جمهرة واسعة من المثقفين الذين عانوا من شظف العيش، واضطروا إلى اختيار الأرصفة لكسب قوتهم اليومي، بلا طأطأة رؤوس.أنا متأكد ان شعوراً غمر الدكتور كاظم بالسعادة.. وامتلأت نفسه بالرضا والارتياح. تعادل كل ما قرأه من نظريات وعلوم وتاريخ، واقتصاد، وفلسفة. هي ذي اللحظة التي تترجم كل المعارف إلى فعل إنساني حقيقي أصيل، والى ناتج اجتماعي وأخلاقي بعيداً عن الزيف وكذب الشعارات.!!على وفق هذه المنظومة الأخلاقية التي تشكل عقله، فكراً وسلوكاَ، وتنظم علاقاته بالعالم. وتحدد فهمه ورؤاه للإنسان، حتى في أسوا حالاته. انه يجد نفسه مضطراً للالتماس من احد أصدقائه للتدخل في معالجة إشكالية تعيد لأهله حقوقهم التي اغتصبها النظام السابق وأزلامه. وهو يترقب وينتظر، شفيعه بذلك، النوايا الطيبة. والزاد والملح، قاعات الدرس المشتركة، الحيطان المتلاصقة في أحياء مدينته، رائحة البخور المنبعثة من مراقد الأئمة عليهم السلام، طقوس العزاء.. المواكب.. التي تطالب بالحرية... و... و... كل ذلك الإرث الطيب والجميل كفيل أن يحقق أحلام تلك الشريحة المظلومة والمعذورة من أهله.. وهي أحلام لا تتعدى، سوى العودة إلى بيوتهم التي شيدوها في سنوات الحرمان والكد والأحزان..كان نصيبي من هذا السعي إنني أشرت إليه بمناشدة بعض أصدقائه – وهم كثر – يشغلون مواقع مهمة في مفاصل الحكومة. فاكتفى برد موجز : انه لا يحتاج كل ذلك. قرأت في الرد شعورا بالمرارة والخيبة.. وفي قراءة ثانية اكتشفت كبرياء عظيمة تليق بالرجال الكبار أمثال كاظم حبيب. إذ كيف نفسر قوله (الحياة تعلمنا الكثير، ولا بد لي من الاستمرار في التعلم).!!أي جلال هذا الذي يحيط بك أيها (الحبيب)؟ أي سمو هذا الذي دعاك أن تحلق دائما في الأعالي بأجنحة تخفق بعوالم فسيحة، وبأنفاس طيبة متواصلة لا تنقطع، مثل الحياة.. تشم رياح التغيير، تحمل وصفات لك
فـي ذكرى ميلاده الخامس والسبعين..كاظم حبيب.. يلزمنا صوتك.. وروحك الشابة
نشر في: 15 يونيو, 2010: 04:30 م