محمود عبد الوهاب في محاضرتها التي ألقتها في مهرجان "غارديان هي" دافعت نادين غورديمير الفائزة بجائزة " نوبل" والشخصية الأدبية المعروفة بنضالها ضدّ التمييز العنصري ، في جنوب أفريقيا ، دافعت "بقوة عن الكتاب المطبوع إزاء الهجوم الضاري من التكنولوجيا" قائلة :
" لا شيء يعوّض الكتاب ، وسوف يكون ثمة حرمان وخطر كبير إذا ما اختفى الكتاب وحلّ مكانه شيء يحوي على بطارية " ، وعن الهاتف الخلوي وتكنولوجيا الكومبيوتر ، قالت ضمن محاضرتها " لا أتكلم عن هذا بطريقة غبيّة ، هذه الأشياء مدهشة بسبب انتشار المعلومات ، لكن بالنسبة للشعر والرواية والقصص التي تحتوي على الخيال في أعماقها ، فلا يوجد بديل للكتاب" ترجمة : نجاح الجبيلي . موقف غورديمير من التحولات العميقة ، يختلف نوعاً و احترازاً عمّا سبقته من مواقف أثيرت عند كل منعطف عميق أحدث اصطداماً وتداخلاً وشرخاً في مرآة الحياة التي ألفها معاصروها ، فقد نعى الشعراء الرومانسيون وكتّاب تلك الحقبة على حياة ما بعد الثورة الصناعية في فرنسا وأوربا التي استبدلت ، في رأيهم ، ضجيج المكائن والآلات والخراب ، بنعومة الحياة ورخائها وسلاستها ، في حين أثنت غورديمير ، في محاضرتها بدهشة على سرعة نشر المعلومة في تكنولوجيا الكومبيوتر ، واستثنت من ذلك ، الشعر والرواية والقصص التي تعتمد الخيال ، ومنحت تلك الأجناس الإبداعية موقعاً استثنائياً لما تتطلبه قراءة تلك النصوص من طقس تأملي خاص بها، ما تزال غورديمير وكثير منّـا يعيش على وفق تقاليده وألفته ، حتى أولئك الذين يبدون تعلّقاً وغراماً بجهاز الكومبيوتر ، فإن معظمهم يعمل على استنساخ تلك النصوص بعد نقلها ، من الكومبيوتر إلى الورق ، لينفرد بقراءتها في جوّه الخاص ، ولا يُخفي عدد من قرّاء الكومبيوتر أيضاً متاعبه في أثناء قراءتهم النصوص، وهي على الشاشة . وقد تناول الكاتب الفرنسي جورج دوهاميل ، في العقد الثالث من القرن الماضي مثل هذه التحولات حينما وصف جهاز " الراديو" بـ " صندوق الضوضاء " الذي لا جدوى معرفية ، في نظره ، من الاستماع إليه ، فالمعرفة تتأتّى من الكتاب الذي بإمكانك إنْ لم تستوعب مقروءه ، أنْ تعيد قراءة الصفحة أو الأسطر حتى تستوفي دلالة ما يعرضه عليك ، على غير ما يبثه " الراديو" في لحظة السماع ، إذ ربما يفوتك وضوح عبارته واستحالة إعادة سماعها ، فما يقوله المذياع من كلام يأتي شفاهياً ومتدفّقاً ، وقد لا يمكن للمستمع إدراك معانيه في لحظة بثّها . إن اعتراض دوهاميل هذا يمثّل صورة لمقاومة الجديد من وسائل الثقافة في تلك الحقبة . إن التحولات في عالم الثورة المعلوماتية القائمة الآن هي من أشد التحولات عمقاً في جوانب كثيرة من الحياة المعاصرة ثقافياً وسياسياً واجتماعياً ، إنها عتَبة الصيرورة والتغيّر إذ يفقد الإنسان المعاصر ألفته وقدرته على فهم ما حوله . وقد عبّر بورخس عن تلك الحالة على لسان إحدى شخصياته وهي تدخل المتاهة : " مَنْ أكون ؟ ذاتي اليوم ، الحائرة ، إنسان الأمس المنسيّ ، إنسان الغد الذي لا يمكن توقعه ! أمثلة تتساوى كلّها في الإبهام " . شملت التحوّلات العميقة كثيراً من وسائل الثقافة المعاصرة كالكتاب والسينما والمسرح وغيرها ، وكان الكتاب مثلاً أحد الوسائل المهمة في نشر الثقافة والعلوم وكان لحَرفِه المطبوع سطوتُُُُُُُُُُه، يذكر ماركيز أنه لما ظهرت قصته الأولى في الجريدة ، اختبأ في حجرته وبدأ يقرأ بقلب جامح ونفَس واحد متصل ، وكان يكتشف في كل سطر " القدرة الساحقة للكلمة المطبوعة" غير أن صورة الكتاب الإبداعي الذي حرصت غورديمير عليه في محاضرتها ، وأثنى عليه دوهاميل وماركيز وغيرهم من كبار الأدباء والمثقفين ، مهدّد بهذه التحولات منذ الثلث الأخير من القرن الماضي ، سعياً وراء إنتــاج ثقافة جديدة بطرائق جديدة وعلى وفق مفهوم جديد في عالم التـــكنولوجيا ، حتى اتخذت تلك الطرائق عنواناًً لكتاب " الصناعات الإبداعية " من تحرير جون هارتلي وترجمة بدر السيد سليمان الرفاعي ، يعرض فيه الوسائل والبيئات الجديدة التي تنتج هذه الثقافة بممارسات ومشروعات ثقافية إذ تنبثق رؤية في جذوة متقدة تؤكد أن الإبداع هو الذي سيقود التغيير الاجتماعي والاقتصادي خلال القرن المقبل . ولعلّ ما ذكره د. جون توملينسون في كتابه " العولمة والثقافة " ترجمة: د. إيهاب عبد الرحيم محمد ، من تحولات في بنية المجتمعات المتقدمة ، في قوله " أنْ يعيش الشخص في مكان لا يوجد به هاتف هو كثيراً ما يفهم على أنه إهانة ضمنية للأصدقاء والأقارب وزملاء العمل " دليل على كيفية تبوّء القيم الاجتماعية الجديدة بتأثير التكنولوجيا في المجتمعات المتقدمة التي أصبحت التكنولوجيا فيها جزءاً من حياتها اليومية . وهكذا نجد أن الكتاب لمّا يزل يخضع للتحولات في مادة صنعه، ابتداءً من كتاب جدر
اوراق..في عالم التكنولوجيا والعولمة:هل تبقى للكتب سطوتها؟
نشر في: 15 يونيو, 2010: 04:54 م