ثائر صالح
ميزت الحركة الشيوعية في روسيا والاتحاد السوفيتي لاحقاً باستعمال الموسيقى والأغاني الدعائية بشكل فعال،
وكلنا استمع إلى أغاني الحرب العالمية الثانية التي استند الكثير منها إلى أغاني شعبية روسية واوكرانية وغيرها. نتحدث اليوم عن عمل محدد، هو مارش جنائزي روسي معروف مطلعه ما معناه "سقطتم مضحين في النضال من أجل الشعب"، وهو مارش الحركة البروليتارية والاشتراكية الديمقراطية والبلشفية لاحقاً، استعمل منذ العام 1878 في توديع المناضلين، واستعمل في تشييع قائد الثورة البلشفية لنين سنة 1924، وتشييع الكثير من الشخصيات السوفيتية لاحقاً.
لقى هذا المارش أصداءه في التأليف الموسيقي عند عدد من المؤلفين في روسيا وخارجها. فقد استعمله الموسيقي الإنكليزي المعروف بنجامين برتن (1913 - 1976) لتأليف [المارش] الجنائزي الروسي الموزع لجوق النحاسيات والإيقاع في سنة 1936، وهو عام اندلاع الحرب الأهلية الاسبانية بين الجمهوريين وأنصار فرانكو الذين دعمتهم ألمانيا النازية مما أثار الخوف من التوسع النازي بين الإنكليز وقتها. نلمس في الجزء الثاني من المارش التأثر الواضح بمالر. وقد وصفه برتن بتعبير "الحرب والموت" في إشارة واضحة إلى شجاعة المتطوعين الامميين وتضحياتهم بالنفس. وبرتن أحد أهم الموسيقيين الإنكليز في القرن العشرين، وهو الذي ألف "دليل الشباب إلى الأوركسترا" (1945) وقداس الحرب الجنائزي (1962) وهما من الأعمال المعروفة. اشتهر برتن بمواقفه المناهضة للحرب والعنف، لذلك ترك بريطانيا سنة 1939 بعد سقوط كل أوروبا في لجة الحرب والعنف. انعكس هذا في مواقفه العامة وفي موسيقاه بشكل واضح، منها هذا العمل وعمله الآخر القداس.
أما في الاتحاد السوفيتي، فقد استعمل دمتري شوستاكوفيتش (1906 – 1975) نفس المارش الجنائزي في الحركة الثالثة من سيمفونيته الحادية عشرة، التي تتحدث عن ثورة 1905 في سنتبطرسبورغ التي قمعتها السلطات القيصرية بمنتهى القسوة عندما أطلق الأمن القيصري النار على جموع العمال المتظاهرين في باحة القصر الشتوي في مذبحة عرفت بالأحد الدامي. ألف شوستاكوفيتش هذه السيمفونية سنة 1957 وحصل بسببها على وسام لينين في العام التالي، 1958. لكن العمل في الحقيقة هو صيحة احتجاج ومعادي للعنف، تماماً مثل عمل برتن، إذ كتبه شوستاكوفيتش بعد أشهر من قمع ثورة 1956 المجرية بقسوة وبتدخل الجيش السوفيتي نفسه. لا نستطيع بذلك سوى المقارنة بين أحداث ثورة 1905 في سنتبطرسبورغ وأحداث 1956 المجرية عندما نفذت قوات أمن الدولة مذبحة مشابهة بحق المتظاهرين في ساحة البرلمان المجري. ومن يقرأ الكتاب المسمى مذكرات شوستاكوفيتش سيفهم الأجواء التي عاشها منذ اشتداد القمع الستاليني أواسط الثلاثينات، عندما كان الجميع دون استثناء يتوقعون قدوم السيارة السوداء لأخذهم إلى أقبية بيريا في أية لحظة، خاصة بعد ظهور مقالات تهاجم أوبراه "ليدي ماكبث من متسنسك" في البرافدا مطلع 1936. وقتها بدأ أصدقاء شوستاكوفيتش يختفون أحدهم بعد الآخر، منهم صديقه الماريشال توخاتشفسكي.