طالب عبد العزيز
اتركْ معرضَ الكتاب، بعناوينه المختلفة، الى أولئك الذين يجدون ضالّتهم هناك، بين الكتب والنساء ونوافير الماء الملونة، ولا تأبه للغة مقدّم مهرجان الشعر السائحة، كثيرة المديح .
هذه منازل يَعافها القاصدُ المتعجّل، زائرُ المدينة الخفيف، واذهبْ الى حيث سكنتَ ذات يوم، ادخل شارعاً ظليلاً، بأشجار تمسُّ اطرافُها قمرةَ الحارس، وتحدقُ طويلاً بعينيه الخافتتين، لتؤرخه كلماتُ اغنية عابرة، وقفْ هنا، لصقَ مبنى الجريدة، حيث تقف امرأةٌ هناك، تنتظر بائع اكياس المحارم. أتذكر أنَّك اخذت عنها حقيبتها، وصعدت سلّم الفندق، أرهقتك درجاته السبع، لكنك بلغت مدخله، وأذِن صاحبُه لك بالدخول. وفي كابينة المصعد الضيّقة أخذتها اليك، دافئةً كانت، وبطيشٍ كثير .. على سرير من الخشب الممطور بالورد، ازحت ثوبا من الكتان ازرقَ وقصيراً، وذهبت الى حيث تحطُّ فراشةٌ سوداء صغيرةٌ بين عمودي الرخام اللينتين.
في الازقّة المظلمة، ببغداد، التي يتصادى صوتُ بغاياها في الليل، مع أصوات الجنود وحاملي الرايات، بساحاتها المزدحمة، وبالمركبات المظللة التي تخطف في النهار، وفي طريقي الى الفندق، الذي تطلُّ حديقُته على الشارع القريب، من النَّهر، منذ أمس، تذكرتُ انني أقمت في احدى غرفاته قبل نحو من اعوام خمسة، كنتُ رفقة امرأة، أتت من مكان بعيد، من خلف جبال نائية، يزدحم على سفوحها مقاتلون ومتقاتلون، تحملُ حقيبة سوداء، وتتخفى وراء نظارة سوداء ايضاً، لا ما كنتُ وإيّاها في غرفة واحدة، لكننا مُنحنا غرفتين، تفصل بينهما عين إلكترونية، ترتبط بسلك عند ادارة الفندق، هي مما استحدثته إدارات الفنادق، لمراقبة الداخلين والخارجين، وهناك، حيث يجلس رجل وقور، لا يسمح باجتماع رجل وامراة في سرير واحد، انتهزتُ عُطل ماكنة الكهرباء، وتوقفَ عين الكاميرا لكي أكون في مخدعها عارياً.
في الصباح أتيتُ لها بكوب الحليب، قبل أنْ تكملَ دورتها على كاونتر المائدة، وفي غفلة من أعين الذين تقابلوا على الطاولة معنا، أطعمتها الخبز ساخناً بالجبن، وبالبيض أحياناً، فكانت حبّات الزيتون الاسود تضيئ أسنانها، ومن زرٍّ في قميصها، أهملته، عارفةً بحقي، رحتُ أطالع شكل الحلم، وهو يتكورُ ويستطيلُ غامضاً، شكل القبلة على الحلمة، وهي تختلف على داكنين، تكزبرهما نسيماتٌ، تفلتت من عطل في النافذة. هي تترك شعرها مرسلاً، مثل قصيدة بلا نهايات، وانا ألقمُ الصبر ناراً وانتظرُ، أرعى في برية الظنون ما أرعى، حتى إذا أفاض النزلاءُ من بهو الفندق، وهبطوا درجاته السبع، وذهب كلٌّ الى غايته، أظلتني نخلتان ببابه، وأسمعنى عاملُ الخدمة كلمة رضاه، جاءت، أخذَنا الطريقُ الى باذخ من العشب، وأصلحتْ مجلسنا عليه، فكان نهار، وكان مساء، وجاء ليل.
هناك ما لايُستدعى بالتذكر ، ولا يذهبُ بالنسيان. ولا يتحققُ في حلم ، ولا يُحمل في حقيبة .،، عطر امرأة هبطت الجبل الى الجنوب.. فهي تصعد قطاراً متخلفاً الى البصرة، لو أنَّه مرَّ ببغداد للصَقَ الاطفالُ رسومهم عليه .. كان توقّفَ باسطنبول، ودمشق، وطهرانَ قبل سنوات تسع. أمّا صوتُها فقد ظلَّ حياً، حيّياً رطْباً، ومتناغماً، مع صوت الريح وهي تعبر، والمطر وهو يهمي دهماً، والستائر وهي تومئ في غرفة بالطابق الثالث، بفندق السفير على ابي نؤاس، حيث كان السينمائيون يحتفلون بعيدهم المئة.