رأى أن الابتعاد عن الوطن أدى الى انحسار عمله السياسي وتوجهه نحو البحث والقراءة
حاوره: علاء المفرجي
ولد الكاتب الاديب د. حسين الهنداوي، في مدينة الهندية، ثم انتقل الى بغداد عام 1961 ليمارس مهناً كثيرة: خياطا، ونجارا، وعامل مطبعة.. وأكمل دراسته الاولية في بغداد، ثم نال البكالوريوس بالفلسفة من جامعة بغداد..
غادر الى فرنسا بداية السبعينيات هاربا من بطش النظام السابق، واستقر في باريس نهاية السبعينيات. نال اولا دبلوماً في اللغة الفرنسية عام 1977، ثم حصل على الماستر في الفلسفة الحديثة من جامعة بواتيه عام 1982، والدكتوراه بدرجة شرف في الفلسفة الحديثة من نفس الجامعة عام 1987.
عمل باحثا ومترجما في المركز الدولي للنشر في باريس، فرنسا، ومؤسس ومدرس قسم اللغة العربية في جامعة بواتيه، فرنسا، مبعوث منظمة العفو الدولية الى لبنان واليمن وهايتي بين 1991 و1995، ورئيسا لتحرير القسم العربي لوكالة يونايتدبرس العالمية للانباء(UPI) لتسع سنوات، رئيس للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق، بين 2004 و2007، مستشار دولي أقدم لبعثة الامم المتحدة في العراق لسبع سنوات بين2008 و2015، مستشار رئيس جمهورية العراق لأربع سنوات بين 2015 و2018. ومستشارا حاليا للسيد رئيس الوزراء لشؤون الانتخابات في العراق.
القسم الاول
لديه اكثر من عشرة كتب منشورة منها: -
"هيغل والاسلام" (بالفرنسية 1987). التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل ، وهيغل والفلسفة الهيغلية، وعلى ضفاف الفلسفة، واخاديدو ، محمد مكية والعمران المعاصر، فلاسفة التنوير والاسلام، الهندية طويريج، بيتنا وبستان بابل، استبداد شرقي ام استبداد في الشرق؟، ولبنان 1991، رحلة في كوكب ممزق، والفلسفة البابلية، مئة سنة من الفلسفة في العراق، مظفر النواب، تأملات وذكريات. كما له تحت الطبع بالعربية: فاشية التخلف، البعث العربي نموذجا، ودولة اللادولة في الفكر الحديث، وفي نقد العقل الامريكي، والمفكر البابلي بيروسا..
من الذي وجه خطواتك الأولى نحو الكتابة؟
- الصدفة وحدها وحسن الحظ ايضا. ولدت في أسرة غدت مع مرور الوقت شبه معدمة. توفي أبي شابا وانا دون العاشرة وثاني خمسة اخوة اولهم بنت تكبرني بعامين. ترك غياب ابي وحشة وفقراً هائلين. فتولت والدتي في ظروف قاسية للغاية مسؤولية حراستنا وتربيتنا أفضل ما استطاعت. كانت تعيلنا من القليل الذي تكسبه من العمل البيتي كخياطة ثياب للصغار وقد تحملت شظف العيش بصمت مطلق اذ كانت أبية النفس ومتقدمة في وعيها على محيطها. كانت كادحة بكل معنى الكلمة رغم انها "ابنة خير" في الأصل، وقديسة. بدأت خطواتي الأولى في تعلم القراءة معها. كما أصرت على ان أكمل تعليمي من عرق جبينها فتفوقت في الابتدائية. وفي صيف 1961 انتقلنا من مدينة الهندية الى بغداد دون عودة، وفيها بدأت اشتغل عامل نجارة في البدء قبل ان امتهن خياطة الكتب في مطبعة الهلال لصاحبها هارون شاشا ومطابع أخرى في شارع المتنبي لم يعد لها وجود اليوم، فيما واصلت اكمال الدراسة المتوسطة مساء.
خلال تلك الفترة بدأ الوعي الادبي والسياسي يتبلور تدريجيا واذكر انني شاهدت بعض عمال المطابع يتعرضون الى الضرب والاعتقال من قبل ميليشيا الحرس القومي بعيد انقلاب 8 شباط 1963. وبالطبع فان عملي في المطابع أسس علاقة لي مع الكتاب، الا ان انطلاقتي الفعلية الأولى في الكتابة كانت بعد انتقالي الى "ثانوية الشعب" في الكاظمية ببغداد في خريف 1964، وكان لمدرس العربية الأستاذ مظفر بشير فضل في ذلك. كما نسجت أولى علاقاتي الأدبية وتبادلت بعض الكتب مع أصدقاء في المدرسة وفي مدينة الحرية وبعضهم صار معروفا بعد حين في الحياة الثقافية العراقية، كما صرت مولعا باقتناء دواوين الشعر والمؤلفات الأدبية الاخرى. في تلك الفترة كنت احفظ الكثير من الشعر، وكانت لي محاولات في الشعر العمودي يافعا وقد نشرت لي بعض القصائد البسيطة في تلك المرحلة اولها في بريد قراء جريدة "البلد" البغدادية، كما طلبت من أستاذ مصري كان يعمل في مدرستنا ان يوصل قصيدة لي، اعجبته كما قال، الى السيدة ام كلثوم لعلها تغنيها، والقصيدة تستلهم "الاطلال" للراحل إبراهيم ناجي. وكان الطلب ساذجا بلا ريب..
لماذا اخترت دراسة الفلسفة هل لانها (أم العلوم) كما توصف ام لدافع آخر؟
- دافع الصدفة أيضا. فعند تقدمي للتسجيل في الجامعة، كنت اريد ان ادرس اللغة العربية على امل ان اعمل مدرسا كي اساعد عائلتي الفقيرة لأن التعيين كان مضمونا. وقد شجعني على هذا التوجه انني كنت متفوقا في مادتي النحو والبلاغة في الثانوية. غير انني فوجئت بانتهاء القبول في قسم اللغة العربية والإنكليزية وحتى الجغرافيا والتاريخ. ولم تكن هناك الا اقسام الصحافة والفلسفة والآثار والاجتماع فاخترت الفلسفة، ولم تكن عندي فكرة واضحة عنها. لاحقا، لم اندم على ذلك. فقد كان لوجود اساتذة نبلاء كحسام الآلوسي ومدني صالح وياسين خليل وكامل الشيبي وغيرهم، دور ساعدنا في تجاوز سخرية البعض من اختيار الفلسفة، واكتشفنا ايضا جاذبية أجواء كلية الآداب في تلك الفترة اذ اشتهرت بمهرجانها الشعري السنوي الذي شاركت فيه مرارا بتألق، فضلا عن مشاركتي في تحرير جريدة حائطية لطلاب قسم الفلسفة نشرت فيها قصائد حب استنسخها بعض الطلاب لحبيباتهم دون ذكر المصدر، كقصيدة من ابياتها:
"هذا انا مدن مسبية فعلت بهنّ عيناك ما لم يفعل التتر"
وأخرى مطلعها: "هنا سقينا الحب امس هنا نرضعه النلاجس والسوسنا"
وثالثة اكثر شهرة وكانت بعنوان "بيادر الصمت" نشرتها مجلة "العاملون في النفط" عام 1970 وحصلت على مكافأة عشرة دنانير وكانت تعد كبيرة عنها، وقد لحنها وغناها لاحقا الفنان نامق اديب ومنها:
غداً، تَئِنُّ الاماني، فهيَ أقدارُ ويرتوي من شفاهِ الصمتِ مزمارُ
مسافرٌ أنا، والاحزان امتعتي وغربةُ الدارِ والترحالُ لي دارُ
مجذافُهُ الهمُّ والاعصـــابُ موقدُه وجرحُهُ نازف الشريانَ ثرثارُ
ماهي مراجع ومصادر طفولتك التي جعلتك تدرك عالم الكتابة؟
- البداية كانت مع نصوص قرآنية ودينية متنوعة. اما اول كتاب قرأته فلا يردني اسمه لكنني أتذكر ان غلافه كان ملونا ولعله احدى قصص ارسين لوبين او المنفلوطي وقد عثرت عليه في مسقط رأسي مدينة الهندية بين المفقودات في مطعم كنت اعمل فيه عاملا وكنت في المتوسطة بعد. في 1964 واعوام المرحلة الثانوية حصلت على نسخة من "ملحمة كلكامش" بترجمة الأستاذ طاهر باقر، كما اشتريت الجزء الأول من ديوان الجواهري وكان محظور التداول، فحفظت معظم قصائده وشغلتني منها لبعض الوقت قصيدة "فلسفية" مطلعها: "أحاول خرقا في الحياة فما اجرا.."، ومنذئذ بدأت رحلة القراءة المتعددة الموضوعات وهي مستمرة الى الآن. الشعر العراقي والعربي وخاصة امرؤ القيس والمتنبي والمعري وأبو نؤاس والسياب ونزار قباني والصافي النجفي وسواهم كانت له الغلبة أولا قبل ان تهيمن روايات نجيب محفوظ وخاصة "اولاد حارتنا" والثلاثية ثم جاءت روايات البرتو مورافيا وكولن ولسن وتولستوي. في المرحلة الجامعية تكونت لدي مكتبة بيتية صغيرة ضمت العديد من الكتب الفلسفية الا ان كتاب "ما قبل الفلسفة" لفرانكفورت وآخرين بترجمة جبرا إبراهيم جبرا، و"لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" لفردريك انجلز وكذلك شعر ابن الفارض وعمر الخيام والحلاج تركت اثارا في تطور الكتابة الفلسفية والأدبية لدي عموما. عملي في مطبعة ثنيان في باب المعظم ومطبعة رمزي في الصالحية ساعدني أيضا على التعرف على عدد من الفنانين التشكيليين والادباء العراقيين البارزين مثل شاكر حسن آل سعيد وستار لقمان وناظم رمزي وصالح الجميعي ومحمد دحام وهاشم سمرجي وفلاح غاطي وغيرهم.
متى بدأت النشر لأول مرة؟
- كانت المحطات الأولى عدة قصائد عمودية ونصوص نشرتها لي مجلة "العاملون في النفط" التي كان يشرف على إصدارها الناقد الراحل جبرا إبراهيم جبرا، منها اول مقال اكتبه في حياتي وكان بعنوان "الضحك في المنظور الفلسفي"، وظهر في 1970. ومقال آخر عن "ابن الفارض والحب الإلهي" في مجلة أخرى ونصوص غيرها. وكانت موضوعات مدرسية بطبيعة الحال الا انها مهمة في سياقها الشخصي. كما نشرت قصائد عديدة في صحيفتي "صوت العمال" و"الميثاق" وغيرها.. وقد جمعتها آنئذٍ في ديوان شعري بعنوان "رمال" وافقت على نشره رقابة المطبوعات الا انه لم ير النور ابدا. اذ اعتقلت بسبب قصيدة وقعت بيد المخابرات البعثية أدت الى اختطافي من الشارع في الوزيرية وتعريضي لساعات طويلة الى تعذيب همجي بالركل واللكمات ثم بعصا بلاستيكية محشوة بأسلاك تحت أنظار مدير أمن بغداد آنذاك وكان اسمه حازم محمد رجب وباشراف مسؤول المكتب الثاني في مديرية أمن بغداد وهو جلاد محترف اسمه سعد الأعظمي وكان لسانه قطعة من البذاءة والنجاسة وكان بليد الملامح من شدة البؤس. بعد يوم كامل من التعذيب الجسدي نقلوني الى بيتنا بسيارة (فوكس واغن) كانت تستخدمها الأجهزة القمعية عادة في اختطاف وقتل المعارضين، ومنحوني مهلة يومين لمباشرة التعاون معهم تحت تهديد القتل في قصر النهاية وجعلوا من بيتنا في ازقة محلة الصدرية كمينا، الا انني تسللت في الليلة ذاتها الى خارج الدار التي لم ارها ابدا بعدئذ. فعندما ذهبت لزيارتها في 2003، أي بعد 33 سنة تقريبا، وجدت بدلا عنها مدرسة للأطفال ففرحت.
هل تتذكر شيئا من تلك القصيدة الآن؟
بعد أعوام سكوت
التراب الميّت امتدت يداه
حملتني،
حملت صوتي الذي مات مرارا
من.. يمنح هذا اليابس العينين تاريخا ؟
ومن يمنحني بيتاً لحزني؟
سيدي.. هم علموني
ان ارى وجهي على جثة جندي قتيل
سيق للحرب اقتسارا
ان امد القلب دارا
للعيون المتعبات
وتناثرت على شط الفرات
مرة اخرى تناثرت
بكيت..
كان رأسي حجرا يركله الماشون فوق الطرقات
وعلى باب المدينة
علّق الشرطي اعلاناً
بأن الارض ما عادت تدور...
الى اين هربت بعدها؟
- تركت بيتنا منتصف ليلة العاشر من أيار 1971 واختفيت ليلة في ظلام بغداد وفي اليوم التالي غادرتها بهوية مزورة الى مناطق تحتلها المعارضة في كردستان العراق وتحديدا الى منطقة جبلية شمال غرب كلالة حيث مكثت مع عشرات الرفاق نحو ثلاث سنوات ونصف ضمن تنظيم (القيادة المركزية) والمعروف بجناح الكفاح المسلح في الحزب الشيوعي العراقي وكنت انتمي له في بغداد أصلا، وكان اهم حزب سياسي في العراق بين 1967 و1969، الا انه تعرض الى حملات تصفية جسدية قاسية من قبل الطغمة البعثية الانقلابية لرفضه التعاون معهم. لكن الحركة الثورية تلك راحت تفقد زخمها يوما بعد آخر ويتلاشى تأثيرها على المستوى الوطني بسبب القمع والابتعاد عن الناس في المدن وتراكم الأخطاء. فقد غدا التنظيم اسير العزلة في الجبال والصراعات الشخصية وفقدان البوصلة والهدف. ويبدو لي من خلال التجربة تلك ان التيارات السياسية المعارضة بما فيها الثورية تفقد سبب وجودها وتتحول الى زمر تائهة كلما ابتعدت عن الناس وعن حياة المدن وكلما تسلط على قيادتها مغامرون نرجسيون مسحورون ببيع الجمل الثورية الفارغة وهذا في أي مكان من العالم. كانت تلك التجربة رومانتيكية في جانب منها وزاخرة بذكريات العيش مع قرويين فقراء كرماء، الا انها كانت قاسية وحزينة للغاية في ذات الوقت بسبب الفشل المعلن. فقد كنا نعيش بكفاف مدهش معتمدين على أنفسنا وعلى ثمار الأرض ولم يكن هناك أطباء او ادوية الا نادرا بعدما رفضنا استلام أي رواتب او مساعدات من أي كان دفاعا عن استقلاليتنا وحريتنا السياسية بما في ذلك من قوات البارزاني التي كانت تسيطر عسكريا على المنطقة وكانت لنا علاقات تفاهم معهم. وقد اوشكت شخصيا على الموت المحقق اثر إصابتي بمرض السل الذي كان منتشرا جدا بين القرويين حولنا ولا دواء. وفي 1974 قررت الذهاب على الاقدام الى سوريا للعلاج وقد كلفني ذلك مسيرة خمسة عشر يوما من المشي على القدمين تكللت بنجاحي بمساعدة مهربين في اجتياز الحدود السورية ليلا وبدون أوراق او هوية.
هل واصلت عملك السياسي المعارض خارج العراق؟
- الابتعاد عن الوطن أدى عمليا الى انحسار عملي السياسي التقليدي والتوجه اكثر نحو القراءة والكتابة الأدبية وقد ساعدني في ذلك انني لم ابحث عن ان اكون قياديا في اية جماعة او مرحلة كما ان حرية العمل السياسي لم يكن لها وجود حقيقي في سوريا ما عدا ان نعمل ضد نظام بغداد. كانت هناك نشاطات محدودة ودورية لأحزاب المعارضة العراقية المتواجدة في دمشق لكنها شكلية وعقيمة وتحت عيون المخابرات السورية دائما. والحقيقة ان اقامتي في سوريا كانت لاشهر قليلة فقط اذ انتقلت الى بيروت للعمل في الصحافة الفلسطينية وقد نشرت بالفعل مقالات وقصائد كثيرة في صحيفتي "الهدف" و"الى الامام" بمساعدة كتاب عراقيين يساريين كالشاعر الشهيد رياض البكري والسينمائي قاسم حول. الا ان اندلاع الحرب الداخلية اللبنانية اضطرني على الرجوع الى دمشق حيث نجحت بما يشبه المعجزة في الحصول على تأشيرة سفر للدراسة في فرنسا. وقد فتح وصولي الى فرنسا تجربة جديدة من حياتي الاكاديمية والأدبية. بدأت بان درست اللغة الفرنسية من الصفر وانتهت بحصولي على الدكتوراه في الفلسفة من نفس الجامعة والتدريس فيها.
كما ساهمت مع عدد من الكتاب والفنانيين العراقيين وابرزهم الشاعر فاضل عباس هادي الشاعر والفنان احمد امير الجاسم وقيس العزاوي وجبار ياسين وعلي القزويني وعلي ماجد على اصدار مجلة (أصوات) وهي اول مجلة ثقافية معارضة حقيقية وغير حزبية في المنفى. وقد اصدرنا منها نحو خمسة عشر عددا بمشاركة فنانين وكتاب عرب. لكن عملي في الكتابة سيحقق قفزات كبيرة بعد عام 1980 حيث عملت مترجما في باريس لنحو خمس سنوات ثم كاتبا في اهم الصحف العربية كالحياة والقدس العربي والشرق الأوسط ثم مستشارا لحقوق الانسان لدى منظمة العفو الدولية ومبعوثها الى لبنان واليمن ثم لدى الأمم المتحدة في هايتي وجمهورية الدومنيكان، ثم رئيس تحرير للقسم العربي في وكالة انباء يونايتدبرس انترناشيونال العالمية لنحو تسع سنوات متتالية.
وهل كان التخصص في الفلسفة في جامعات فرنسا الحلم الذي سعيت له؟
- دراستي للفلسفة بدأت في بغداد الا ان التخصص فيها لم يتحول الى واقع الا في مدينة بواتيه الفرنسية. فبعد ان كنت قد نسيت الفلسفة عمليا بسبب الانقطاع عنها وجدت نفسي امام الفيلسوف روجيه غارودي مرة أو امام أستاذ الفلسفة الهيغلية الأشهر في أوروبا جاك دونت عشرات المرات. ومع هذا الأخير وتحت اشرافه عملت باحثا لفترة طويلة في المجال الفلسفي وكانت بدايتها انجاز أطروحة للماجستير عن تطور الفكرة الالهية في الشرق القديم، ثم انجاز اطروحتي لنيل الدكتوراه وكانت عن "هيغل والإسلام" وهي دراسة جديدة تماما، وقد اعقبها انجاز دراسات ومقالات فلسفية كثيرة أخرى ظهرت في صحف ومجلات عربية معروفة. وأستطيع القول ان بعض الحلم الأول في ركوب بحر الفلسفة تحقق بالفعل لكن الطريق ما زال محفوفا بالمغامرات ولا أقول الاخطار لان خوض الاشتغال بالفلسفة متعة بذاتها.
- لكن الفلسفة من وجهة نظر الذاكرة الجمعية مجال ليس من السهولة الخوض فيه..
- هذا صحيح تماما. لكن جميع مجالات الابداع الحقيقي صعبة اذا اخذناها جديا. الفلسفة اكثر صعوبة ربما لأنها مجال نخبوي تماما ومشكوك بأمرها ونواياها في كل الثقافات الايمانية في العالم. ومع ذلك فهي تؤسرني بسحرها الخاص. انها العالم الوحيد الذي لا اشعر فيه بالوحدة عندما أكون وحيدا. لست باحثا عن الحقائق المطلقة انما عن الطمأنينة العقلية المطلقة والفلسفة وحدها تستطيع ان توفرها.
تركز جدا على هيغل في اهتمامك. ماهي اهمية هذا الفيلسوف في نظرك؟
- هيغل مجرد فيلسوف في التحليل الأخير ولا قدسية تذكر له. لكنه فيلسوف كبير في تاريخ الفلسفة الحديثة. ومفكر نقدي بالدرجة الاولى وانساني المنظور. وفي هذه الجوانب الثلاثة وفي غيرها تكمن اهمية هيغل بالنسبة لنا. كما تنعكس في حضور الفلسفة الهيغلية في حياتنا الراهنة. بما فيها السياسية وليس الثقافية فقط وهذا رغم مرور ما يزيد على قرنين على وفاة الفيلسوف الالماني الشهير هذا. اذ تعتبر الهيغلية اليوم أساس معظم تيارات الفكر الغربي الحديث وخاصة الفكر الامريكي. من هنا تبرز اهمية فهم ماهية البعد النقدي الذي تتميز به الفلسفة الهيغلية خاصة في مجال التاريخ والحقوق والسياسة وانعكاس هذا البعد في الوقائع السياسية والدبلوماسية للقوى العالمية الراهنة. وبالطبع فان الهدف من هذا الفهم ليس لخق العداوات او اثارة النعرات. انما للاستفادة والفهم لتطوير حياتنا عبر فهم النواقص واسباب الاخفاقات التي عانت منها شعوبنا حضارياً وانسانياً.