لطفية الدليمي
1999 - 2003
القسم الثاني
يبهجنا الطوافُ في المبنى الباهر للممدرسة المستنصرية ؛ لكن بالقدر ذاته يجتاح الغم أنفسنا لمرأى الخراب الذي طال كل شيء ؛
فقد تهاوت بعض جدران الصوامع وتحطمت حواشي درجات السلالم العتيقة وأهملت الأروقة العلوية حتى سكنتها الهوام من عناكب وخفافيش وسحالي. بينما كنت أمرُّ أمام الصوامع سمعتُ همهمات المعتزلين وميّزْتُ ترتيل المعتكفين المنقطعين للعبادة وجدل المختلفين في شأن فلسفي أو فقهي، كان صدى من ضحكات خَجِلة وصيحات غضب نافدة الصبر تتسلل من الصوامع المهجورة التي أحتفظت جدرانها بأصداء تلك العصور الغابرة.
الساعة العجيبة
نعبر الفناء الواسع إلى الإيوان الرئيسي حيث وضع المشرفون في صدر الإيوان تخطيطاً بدائياً للساعة العجيبة التي شغلت أهل عصرها والعصور اللاحقة، وتحت التخطيط كتبوا على لوح أزرق وصفاً للساعة تتخلله أغلاط إملائية ونحوية، جَهَلَةُ معاصرون يديرون دار علم وجامعة معارف ويعتقلون الزمن بين مخالب جهلهم.
كان يَمْثُلُ هنا في صدر الإيوان صندوقُ الساعة العجيبة التي ابتكرها وصنعها نور الدين علي بن تغلب الساعاتي، وهو الذي كان يتولى العناية بها لتكون وحيدة الدهر، تُعرَفُ بها أوقات الصلوات والدروس وسطوع النجوم ودورات الحياة، وقيل في وصفها :
« الصندوق دائرة متقنة، فيها صورة من لازورد للسماء، جعل فيها مهندس الوقت طاقات لطيفة الصنعة بعدد ساعات اليوم، لها أبواب رقيقة، وفي طرفي الدائرة طائرا بازٍ من ذهبٍ في طاستين ذهبيتين يحرسان الزمن أو يبددانه كأنهما حارسا الفردوس والجحيم، ووراءهما بندقتان من برونز لا يدركهما الناظر ؛ فعند مضي كل ساعة ينفتح منقارا الطائرين وتسقط منهما البندقتان، وكلما سقطت بندقة في الطاسة إنفتح باب من أبواب تلك الطاقات. الباب مُذَهّبٌ فيصير حينئذ مفضضاً، وتمضي ساعة زمانية ليتحول ذهب الوقت الضائع فضةً « .
حكمة عتيقة عن ضياع الزمن، واذا وقعت البندقتان في الطاستين فإنهما تذهبان إلى موضعهما تلقائياً ثم تطلع شموس من ذهب في سماء لازوردية مع طلوع الشمس الحقيقية، وتدور مع دورانها طوال النهار، وتغيب مع غيابه، فإذا غربت وجاء الليل فهناك أقمار طالعة من ضوء خلفها، كلما تكاملت ساعة من ساعات الليل تكامل ذلك الضوء في دائرة القمر، ثم تبتدئ في الدائرة الاخرى إلى انقضاء الليل وطلوع الشمس، فيُعْلَمُ بذلك أوقات الحياة والصلاة ؛ لكن لم يُعْلَمْ أحدٌ بما يخبئ الغد من كوارث لبغداد وأهلها وللجامعة ومبناها العتيد.
متواليات الأقواس :
تناغم العمارة مع وظيفة المبنى
يتعزز حضور المبنى لحظة إفلاته من المدى التأريخي ويتكثف مرآهُ حول نواة ضوئية تتكاثر في الرواق العجيب وتستقطب التوالي الايقاعي للأقواس المعقودة والأواوين التي تتقاطع قمم أقواسها مع واقعية الجدران المرقشة،
و مع هذا التناغم الهندسي يشكل ارتطام أمواج دجلة بالمسناة الحجرية وراء المستنصرية موسيقى صادحة تارة أو رخيمة واطئة تارة أخرى، يطوّق صداحها المبنى وتستدرجنا لملاحقة التبدلات المائية والضوئية وتموجات الظلال وضوء الشمس وارتحالات السحب فوقنا ؛ بينما المدينة الحزينة التي تتقوض بصمت وتنطوي على وجع جراحها ترقد في قاع الزمن وتتخمر منازلها وأحياؤها على أهبّة التحلل في الغروب الوشيك.
يُعاد تشكل هيأة المبنى كل برهةٍ بفعل الضوء الذي يغمر الفراغات ونقوش الآجر والمقرنصات ؛ فيبدو مختلفاً بين لحظة وأخرى حسب انعكاسات ضوء الشمس. تقاوم الجدران والأقواس والكوى والمعتكفات في وحدتها وتآلفها خسة السوق البشري الضاج وراء الباب، تقاوم فضائحية أحداثه ومعاركه وغش المتسيّدين على عالمه، تقاوم أخاديع البشر وأكاذيب الأخبار والباعة الجوالين والمساومات الصغرى والصفقات الكبرى.
يحتضن المبنى الداخلي المكتفي بجلاله التاريخي أشواقنا للضوء ويُهيجُ بتحوّلات الظلال ومساقط النور رعشة الجمال في قلوبنا، ويكتمل ظهوره مستقلاً مترسخاً في زمن الارض الراهن ومتوحداً مع الفضاء العلوي. خارج مبنى المستنصرية كان الكائن البشري الذي تطور خلال حقب الزمان ينمسخ كائناً وسطاً بين الانسان والضواري ويحتل شوارع المدينة وطرقها استعداداً للانقضاض على الغنائم.
حال دخول المرء إلى مبنى المستنصرية يفلت القلب من قانون الضواري ويذوب رقيقاً مرهفاً في فضاءات التاريخ ، يتكثف وجود اللمسة التاريخية بين النقوش المحفورة في الآجر والظلال التي يصنعها الضوء، وتقترح خرائط لجذور أشجار ومسارب أنهار وغيوم توثّق العلاقة بين الأعالي والأعماق، وتعوض هذه المشاهد بجمالياتها المدهشة عن امتزاج الإنساني والحيواني خارج المبنى. يتشكل مابين الغيم والجذور فراغٌ مزحوم بشذرات من النجوم الضالة ودموع التلامذة المغتربين في معتكفاتهم يوم كانوا يتحاورون ويجادلون في الخلق والإبتداء ؛ فيغدو كل شيء تجسداّ عرضياً للجمال الكامن في لب المبنى.
تهبّ من المبنى العريق أصداء الجدال الفقهي وحوارات الفلكيين، ونستمع إلى كشوفات العلماء التي يقوم عليها قياس الوجود وتتحول المدرسة بيننا حضوراً شمسياً شبيها بساعتها السحرية. تحتفي بنا أروقة المبنى كما كانت الصوامع تحتفي بتوحد الدارسين، وتوقظ العقل على أسئلة الوجود وتجترح الحجة والبرهان ؛ بينما أصابعنا تتلون بحبر الزعفران ونحن في انذهال إزاء عبقرية العمارة التي ضمنت رسوخ الفرد في فرديته ومنحته مُعْتَزَلاتٍ صومعية يرقب في سكونها تحولات العالم وكشوفات العقل.
لاصوت يتسرب من كيان المدينة المتحلل في الخوف والمجاعة. لاشيء يتسلل إلى المبنى ؛ فالمكان محميٌّ بجدران سميكة ومرصودٌ لأبهة الهدوء الملكي. لا ضجة - مهما عظمت - في وسعها التسلل عبر الجدران العريضة والصوامع، لكأن الموقع هوّةٌ زمنيةٌ تبتلع الأصوات وترسّخُ المصائر اللامرئية.
ننسى - لبرهة انسحار - فواجع بغداد وانهياراتها ونحن نتيه في مركز العالم القديم الذي تتجلى فيه بغداد مغايرة، جميلة،مزهوة، مدينة منسوجة من المعارف والنبوءات والسحر وحسابات الافلاك وانكسارات الضوء ؛ بينما تحوم فيها وعلى أدنى أبوابها النذرُ المخيفةُ ووعيد مغول عصرنا.
اللصوص يحتلون المبنى
زرنا – صديقتي وأنا - المبنى بعد 2003 حين ضربت نيران المارينز والقوات المتحالفة بوابات بغداد وتهاوى التاريخ على برك الدم والرماد، نُهبت المدينة وأُحرقت بعض مبانيها ودُمّرت مكتبات كثيرة ، إحتل اللصوص والعصابات مبنى المدرسة المستنصرية كما حدّثَنا بائعُ تحف في جوار المبنى، قال أن العصابات خزّنت في صوامع العلم وحجرات تلامذة الحديث وحجرات الجدال الفقهي مسروقاتها من أجهزة مكاتب الدولة المستباحة، ولبثوا فيها شهوراً يديرون عمليات النهب المنظم والاختطاف ويخفون المخطوفين في بعض الصوامع. استنجد موظفو المبنى ببعض العسكريين العاطلين بعد حلّ الجيش واستغاثوا بتجار السوق العارفين بتاريخ المبنى وممراته وأروقته، وجرت معارك مع اللصوص والخاطفين إنتهت بهربهم واستعيدت المدرسة التي نالها من الخراب ما نال المدينة المتلاشية في العدم.
الطحالبُ براعة التفاهة
كانت الشمس تبدل أهواءها فوق المدينة ويتلقى فناء المدرسة عطاياها بمقادير ضوء تتيح للطحالب الخضراء أن تتسرطن على بقع متفاوتة فوق الآجر الذي يبلط الفناء، الآجر الذي خانته صلابته بفعل الازمنة سمح للطحالب بأن تتكاثر عليه وتعلن غلبة التفاهة على صلابة الآجر، يمدُّ الطحلب زوائده على الأرض، يستكشف أيّ النباتات يمكنه امتصاص نسغها، فيزحف نحوها ببراءة زائفة ويكسو نضح الوحل مقلداً شجرة كذوباً بأذرعه المتطاولة.
ينمو الطحلب التافه في حوض البنفسج أو يلتف حول الشوك المقدس ليبرهن لنا أن الطبيعة تماثلنا، لها هفواتها وانحرافاتها وضعفها وتواطؤاتها، لايتأكد وجود الطحلب إلا بضعف البنفسج وتوهمه بأن الجمال الرقيق بوسعه أن يهزم الوقاحة الجائرة . يعوم الطحلب في الفراغات لكنه يبقى مجرد لطخة تدافع عن تفاهتها ببراعات ماكرة لها تمظهرات نبات مسالم يخدع البنفسج المسترخي في أبهته والدائخ بتاريخه العَطِر ، يؤكد الطحلب ضرورة كل وجود مهما اختلفنا في تقويم جدواه ؛ فضرورة الزائل تبقى لا الزائل بذاته.
حين نعود إلى المكان بعد أسبوعين نجد البنفسج ناجيا من تطفل الطحلب، جفّت الطحالب على الطابوق المربع (الفرشيّ) وانتهت إلى غبار أخضر ؛ بينما تفتحت زهيرات البنفسج في الضحى والتمعت وسط الأحواض الغدقة كنجوم صغيرة.
وسط أريج البنفسج وسطوع الضحى ترسم صديقتي ظاهرة السكون في مبنى المستنصرية، ترسم السماء المقببة فوقنا كأنها خباء مقوس، ثم أكتشفُ أنها سجنت أحد ظلالي ورسمتني بين صمت المبنى والقبة العلوية وخبأته بين أوراقها وخطوطها .
أكتبُ نصاً غائماً عن الحب والعدم وزوال الطحلب العابر وحقيقة البنفسج الهش الذي يستسلم لتفاهة الطحلب، نخبئ محبرة الحبر الصيني التي ترسم بها تخطيطاتها في حديقة البنفسج ، نودع الحبر بين الشذى والسكون الدهري حتى نعود ثانية ونتظاهر بالبحث عن كنزنا المخبوء في التراب. قيل لنا أن الطحالب استولت بعدئذ على الجدران والصوامع والعشب البري في فناء المستنصرية واختفت أنوثة نبتة البنفسج وسط هجوم الشوك والطحالب.
نغادر القرن السابع الهجري لنكابد المرور في المدينة المتلاشية منحدرتين على جرف دجلة إلى المرسى النهري، نعبر النهر في زورق مع مسافرين مائيين، مع عشاق هاربين من فضول البشر ونساء في ثياب الحِداد , وبعد هرب مؤقت في جنة الماء ودعابات الموج واستدعاء حكايات من «الف ليلة وليلة» ومجون شعراء بغداد وسُمّارها، نبلغ المرسى تحت مبنى السفارة البريطانية القديم، نهبط من الزورق، تتبع خطانا رائحةُ السمك تفوح من سوق «الشواكة»، والصيادون ينادون على سمك الشبوط والبُني والقطان، النسوة الجميلات يساومن ويتضاحكن وتكاد عباءاتهن تنزلق عن رؤوسهن وتكشف عن أجسادهن الناحلة الرقيقة والأخرى المترعة عافية وسمنة، الدكاكين تتزيا بشباك الصيد والصنارات وطوافات الفلين، تطردنا الروائح والصفقات إلى شارع حيفا في اتجاه متحف الفن العراقي الذي سيُنْهَبُ بعد الاحتلال ويبيع اللصوص نفائسه مابين سوق الشواكة وصالات الرصافة ومقاهي الكرخ، وتتسرب معظم كنوزه إلى بلدان تتربص بانكسارات التأريخ لتؤسس لها تاريخاً فنياً على أنقاض فواجعنا.