TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلامٌ عاديٌّ جداً: طاعمٌ طامعٌ

كلامٌ عاديٌّ جداً: طاعمٌ طامعٌ

نشر في: 28 ديسمبر, 2021: 10:47 م

 حيدر المحسن

في مثل هذه الأيّام من العام الماضي ظهر العدد الأوّل من “كلام عاديّ جدّا”، وكان العهد أن يكون «قراءة في الأدب وليس في الحياة»، وهذا هو الأصعب في ميدان الكلام. يقول فوكو: «النقد هو تمرير كلام ضيّق صامت بالنسبة إلى نفسه وبالنسبة إلى كلام آخر أكثر ثرثرة (ويعني به الأدب). بالإضافة إلى أنّ دراسة الأدب أسكنتني بيتا دافئا ومضيئا، أنا صاحب الحلّ والتّرحال، لا يمرّ أسبوع إلّا وارتاد جناحاي سماء جديدة، لقد أقعدني نقد الأدب في البيت، وصرتُ ربّه، وربّته، تخاف من غروب النّهار!

سُئِلَ أعرابيّ رفع يديه عن الوليمة: “شبِعتَ؟” قال: “بل إنّي تعبتُ!”.

كانت فرصة ثمينة أعدتُ فيها قراءة كافافيس وحسين عبد اللّطيف، والتّوقّف عندهما، والتّفكير، وتكثيف الفِكر، وتركيزه... وكنت أنوي دراسة صاحب “رائحة الشّتاء” لولا أن حضرني قول الأعرابي، وهو يتعب من أكل الزّاد. عن عبد الجبّار عبّاس: ليس هناك منهج واحد في النّقد الأدبيّ، ولكلّ خائض فيه طريقته في الإبحار إلى برّ السّلامة. أأقول إنّي نجوتُ في رحلتي التي دامت عاما من الأيّام والسّاعات والأحلام؟ وهل كان ما ملأتُ به عمودي الأسبوعيّ من كلام عاديّ نقداً؟

أحسب أنّي أخذتُ هذا الفنّ مثلما قال تشيخوف: لا أفهم في النّقد سوى يعجبني أو لا يعجبني! وكان ماركيز يراه «اكتشاف المتعة في النّصّ، لا غير”، ويختلف الشّاعر الأرجنتينيّ عن الاثنين قليلا، فكان يعتبر تصفيف الكتب في رفوفها نقدا، ويخبرنا مانغويل، معاون بورخيس في القراءة لمّا أصابه العمى أنّه كان يمتلك “أذنا داهية تجاه النّثر القبيح، وقدرة على السّخرية بلا رأفة”. العبارة الشّهيرة المنسوبة إلى الجاحظ: “وكلّ من ألّف كتاباً عليه أن يتصوّر جميع النّاس له أعداء”، تجعلنا ممسوسين بالتّهكّم من الأدب رديء الصّنعة، وكلّ هذا لا يدخل في باب النّقد، فهو يبقى في الأوّل وفي الأخير فنّا للثّناء؛ مدحا وتقريضا وتقديرا وتبجيلا، على أن يضع فيه صاحبه عِطره، شذا حرفه الخاصّ.

لربّات البيوت اللّواتي يخفن غروب النّهار ملامح متشابهة، ولكنّهن يختلفن في خطّة العمل، وأستعير من «خطوة الذّئب”، ديواني الأول، صورةً حيّة لطريقة إملاء «الكلام العاديّ جدا». تحمل القصيدة عنوان “كلّ يوم”، بينما كان عملي يستغرق أسبوعا، من الكدّ والكدح:

بسلامة طويّةٍ/ بتؤدةٍ /بسكينة /بهدأةٍ /برويّةٍ /باتّساقٍ /بدَعةٍ وتُدعةٍ وتَدعةٍ وتداعةٍ / يتفجّرُ رائعا خَفِرا فجرَ كلّ يومٍ سَحَرْ

هكذا كان الأمر يجري عند كتابة “كلام عاديّ..”، وكلّ سطر في القصيدة يمثّل شرطا لإتمام العمل؛ أولّه سلامة الطّويّة، وكذلك الهدوء والسّكينة مطلوبة في المنزل، كلّ المنزل، لو أن صحنا في المطبخ البعيد لم يُشطف ويُنشّف ويُلمّع ويوضع في مكانه، وعلى أتمّ وجه، فإنّ العامل في كتابة النّقد، وهو جالس في غرفة المعيشة، سوف يعلم بالأمر حتمًا، ذلك أن أحد معاني النّقد هو الإحساس من بُعد، ومن المكان الأبعد: بسلامة طويّة، بتؤدة، بسكينة، بدعةٍ، وتُدعةٍ... يطلع من فرن النّفس الخفِرة كلاما جديدا، وهو عاديٌّ جداً.

أصعب الفنون قاطبةً هو النّحت، ذلك أنّ على النّحّات تطويع الحجر والحديد والنّحاس إلى مادّة تشبه ورق الورد في نعومتها، وهذا هو الإعجاز بعينه. وكلّ ما ينطبق على النّحت، يجري معناه على النّقد الأدبيّ، فالنّصوص ما هي إلّا أحجار، ويعمل إزميل النّحت -النّقد- في أجسادها.

يضع الأديب السّؤال، وعلى النّاقد تقع مهمّة ومسؤوليّة الإجابة.

ويمكن تشبيه الأدب كلّه بفنّ الطّبيخ، الحساء الذي لا يُشبع منه هو اللّذيذ، وهو ما يستزيد منه الطّاعم، والنّاقد في آخر الأمر ما هو إلا طاعم طامع. قيل لأعرابيّ: هل شبعتَ؟ قال: بل إنّي تعبتُ...

هناك أشياء لا يمكن أن تحدث بالكامل حتّى نهايتها، لأنّها أكبر، وأكثر روعة من أن تُضمّن في زمن واحد.

بعد ساعات قليلة سيبدأ عام جديد، ويكون لي فيه عمود أسبوعيّ جديد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

باليت المدى: جوهرة بلفدير

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram