لطفية الدليمي
غاب إذن جابر عصفور . أعلن غيابُهُ رحيل أحد الصُنّاع المَهَرَة ، وقبل كل شيء الأكثر دأباً ، في رسم مشهد الثقافة العربية المعاصرة التي بات صانعوها الخُلّصُ يحفرون الصخر في مواجهة الهجمة الإرتكاسية التي تسعى لتدمير كلّ تراث العقلنة والتنوير في فضائنا العربي– ذلك الفضاء الملتبس والمتخم بإشكاليات مدمّرة قد تدفع أشدّ المؤمنين بقيم التنوير إلى النكوص والمكوث في مربّع العجز واللافعل .
الراحل جابر عصفور يمكن أن يوصف عن حقّ بأنه أحد التلاميذ النجباء لمدرسة التنوير المصرية التي قادها طه حسين ، والتي تتصادى طروحاتها مع تراث المدرسة المعتزلية والفلسفة الرُشْدية ؛ فقد إجتهد منذ بواكيره الأولى على إدامة زخم هذه المدرسة والحفاظ على شعلتها الحية وبخاصة بعد الهجمة العاتية التي تعرّضت لها في سبعينات القرن العشرين ومابعدها عندما تعاضدت السلفية اللاهوتية مع الأصولية الدينية وعملا معاً على تحجيم كلّ تراث المدرسة التنويرية المصرية عبر ممارسات مصنوعة بحرفنة عقول متمرّسة في تطويع الفضاء العام لصالح توجهاتها الآيديولوجية ، وكان أداء وفعل الراحل عصفور ذا قيمة استثنائية على صعيد قيمة المنجز التنويري وشجاعة المواجهة الثقافية .
لم يحصل أن التقيتُ الراحل لقاء مباشراً . كان لقائي به عبر كتبه المنشورة تأليفاً وترجمة ، وأذكرُ أنّ أوّل كتاب قرأته له هو ( عصر البنيوية من ليفي شتراوس إلى فوكو ) الذي صدر في بغداد عن دار آفاق عربية عام 1985 ، ثمّ أعقبه كتاب ( الماركسية والنقد الأدبي ) الصادر عام 1986 ، ثمّ كتابه ( النظرية الأدبية المعاصرة ) لرامان سلدن ، الصادر عام 1991 والذي لقي مقروئية عالية بين أوسع حلقات المشتغلين بالأدب والنقد والنظرية الأدبية بعامة . كانت قراءاتي هذه له في الحقل الترجمي حصرياً ، ثمّ اعتزمتُ قراءة مايتاحُ لي من مؤلفاته ، فقرأتُ أولاً كتابه المهم ( زمن الرواية ) الصادر عن دار المدى عام 1999 ، ثمّ كتاب ( النقد الأدبي والهوية الثقافية ) الصادر عن مجلة دبي الثقافية عام 2009 . لن أنسى كتبه التي تناولت محنة الساعين لإشاعة التنوير والروح الدينامية في ثقافتنا العربية ، ولعلّ كتابَيْه ( محنة التنوير ) الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1993 ، و ( دفاعاً عن التنوير ) الصادر عن الهيئة العامة للثقافة عام 1993يمثلان علامة مميزة في مشروعه التنويري .
لو طُلِب إليّ تحديد المعالم المميزة لشخصية الراحل عصفور وجهده راسخ البصمات فسأجمِلُها في المعالم التالية :
أولاً : هو شخصية عظيمة الثراء والتنوّع والخصوبة الثقافية . يكتبُ في التنوير والنظرية الأدبية والنقدية والسياسات الثقافية . لم يكتفِ أو يركن إلى دعة الحياة الجامعية التقليدية بل أعدّ نفسه ليكون عنصراً فاعلاً في مشروع كبير .
ثانياً : هو شخصية دينامية لاتنفكّ تذكّرنا بأعاظم الفاعلين الثقافيين على مستوى العالم ، ولطالما ذكّرتني ديناميته العجيبة بمثقفين رفيعين من طراز سارتر أو كامو . يؤلف الكتب ، ويترجم بعضها الآخر ، ويعملُ مستشاراً ثقافياً في قائمة طويلة من المجلات الثقافية العربية ، ثمّ يعملُ أستاذاً زائراً في أكابر الجامعات الأمريكية والأوربية ( هارفرد ، ستوكهولم ،،،، ) . مهمات كبيرة يصعب تصورُ أن تسعها حياةُ فرد واحد .
ثالثاً : هو صانع عظيم المهارة في تشكيل السياسات الثقافية والهياكل المؤسساتية الداعمة للثقافة . ليس أمراً يسيراً في بيئتنا العربية أن تكون وزيراً للثقافة ؛ إذ ستأكل السياسة من جرف الثقافة . أكادُ أقولُ أنّ الراحل عصفور في فترة توزيره كان نموذجاً فريداً للمثقف الذي لايجعل الوزارة عبئاً على جهده الثقافي بقدر مايجعلها وسيلة لخدمة مشروعه التنويري . الثقافة عند عصفور تأتي في المرتبة الأولى ولايمكن أن تنكفئ إلى الوراء برغم كلّ ألاعيب الدهاليز الخفية في مطابخ السياسة . الأمر ذاته ينسحبُ على حقل الثقافة المؤسساتية ؛ فقد نجح عصفور في تأسيسه واشرافه وإدارته لمؤسسة ( المشروع القومي للترجمة ) التي تأسست عام 2007 نجاحاً هائلاً . أقولُ بثقة : إنّ المشروع القومي للترجمة هو البصمة المميزة في إرث عصفور ، والتي ستخلّد ذكره إلى آماد بعيدة . نصيحتي لكلّ قارئ شغوف : إذا ماوجدت كتاباً مدموغاً بعلامة ( م ق ت ) – المركز القومي للترجمة ، فتلك علامة جهد راقٍ في قيمته الثقافية .
جابر عصفور نقطة ضوء تنويرية في ثقافتنا العربية ، منحها الراحل دفقاً لاينضب من مداد روحه وعقله ، ولاأحسبها إلا ستتعاظم في قدراتها على يد محبي الراحل وتلامذته وعشّاق التنوير الذي لاأتمنى أن ينخذل برحيل جابر عصفور .